آخر الرسائل

Post Top Ad

Your Ad Spot

السبت، 2 أبريل 2022

من بريد الجمعه .. فيض القلب



هل يستطيع الإنسان أن يزعم لنفسه حقا أنه يتحكم في مسار حياته ويوجهها وفقا لإرادته المطلقة؟ إنني أقول لك أنه لا يملك من أمره الكثير, وأن هناك مصادفات وعوامل كثيرة قد تحدد مسار حياته علي غير سابق توقع منه, وأحسب أن هذا هو ما حدث معي حين التقيت بهذه الإنسانة فجأة منذ25 عاما, فلقد كنت في ذلك الوقت مجندا في البحرية بالرغم من أنني قاهري وأقيم بالعاصمة.. ثم دعيت خلال احدي اجازاتي لحضور حفل ميلاد لأحد الأقارب المقيمين بالثغر, وتوجهت للحفل فرأيتها فيه وشعرت شعورا غامضا غريبا بأن هذه الفتاة التي لا أعرفها ولا تعرفني وتدرس بكلية الهندسة جامعة الإسكندرية, ستكون ذات يوم ولو بعد بضع سنوات الإنسانة التي أشاركها رحلة العمر! ولم تكن ظروفي في ذلك الوقت تسمح لي بالزواج فأنا موظف حديث ببكالوريوس التجارة بإحدي الهيئات الحكومية ومجند بالقوات المسلحة, وليس لدي ما أستطيع أن أبدأ به أي مشروع للارتباط فلم أبح لأحد بهذا الإحساس الغريب وظللت طوال الحفل أشعر بها بشدة حتي وأنا لا أراها.. وأختلس من حين لآخر نظرة فاحصة لها, وأتخيلها بفستان الزفاف الابيض الي جواري ـ ويدي تمسك بيدها. وانتهي الحفل ـ ورجعت الي وحدتي البحرية.. وأديت خدمتي العسكرية وعملت بوظيفتي في القاهرة لبضعة أشهر, ثم انتقلت منها الي وظيفة أفضل بشركة بترول ـ وعملت بها لفترة قصيرة, ثم وجدت فرصة عمل أحسن في شركة جديدة لخدمات الطيران فانتقلت إليها.. ووجدت بين يدي بعض المدخرات البسيطة التي تصلح كبداية لمشروع الزواج.. فاتخذت أن أنفذ ما كنت قد فكرت فيه قبل عامين وكتمته في صدري وركبت القطار في الصباح الباكر للإسكندرية, وتوجهت من المحطة إلي كلية الهندسة, وطلبت من فراش الكلية أن يبلغ الآنسة فلانة أن لها قريبا ينتظرها خارج قاعة المحاضرة, وغاب الرجل بضع دقائق ورجع ومعه الفتاة التي رأيتها في حفل عيد الميلاد والتي دهشت كثيرا لرؤيتي في الكلية, لكنها سألتني بأدب عما أريده فصارحتها علي الفور أنني أفكر في الارتباط بها منذ رأيتها لأول مرة في حفل عيد ميلاد قريبي.. وأريد أن استئذنها في التقدم لابيها إذا كانت تقبل بي.. فابتسمت في حياء وفكرت لحظات ثم قالت لي إن أسرتها يسعدها أن تستقبلني في أي وقت أشاء, وشكرتها كثيرا وأنا لا أتمالك نفسي من الفرح والسعادة. وفي المساء كنت في صالون مسكنها أطلب يدها من أبيها, وتمت قراءة الفاتحة.. ومن هذه اللحظة تفجرت ينابيع الحب في قلبينا وفاضت مياهها العذبة.. وتساهلت علي فتاتي وأبويها كثيرا في مطالب الزواج, حتي لقد قبلوا بأن نتزوج في شقة مفروشة بالإسكندرية إلي أن تنهي فتاتي دراستها بكلية الهندسة, ثم تنتقل معي للاقامة في شقة بالقاهرة.

وتزوجنا وأصبحت أمضي أيام الاسبوع في العمل بالعاصمة وأطير علي جناح الشوق الي زوجتي الحبيبة بالإسكندرية في نهاية الاسبوع وأيام العطلات, ووهبنا الله طفلة جميلة ثم طفلا رائعا ووجدت زوجتي حلوة المعشر تنشر الحب والعطف والتسامح حولها وتكره الخصام والشقاق والنكد وتنسي الإساءة سريعا, وتحب الناس وتبادر بتقديم خدماتها لكل من هم حولها.

ومضت بنا الأيام, وانتقلت من عملي بشركة البترول للعمل بهيئة دولية في مصر, وتحسنت أحوالنا المادية كثيرا حتي أصبحنا من ذوي الاملاك واكتشفت زوجتي ذات يوم أنني قد اشتريت باسمها قطعة أرض, فلم يكن منها إلا أن اعطتني رغما عني كل ما ورثته من مال عن أبيها وظل دستورنا في علاقتنا كزوجين هو ما قلته لزوجتي بعد إنجاب الطفلين وهو انني لن أتمسك بك ذات يوم كزوجة لمجرد أننا أنجبنا طفلين, ولا أريدك أنت أيضا أن تتحمليني من أجل ذلك, وإنما سوف أتمسك بك لشخصك أولا وأخلاقك وطباعك الجميلة ومن بعد ذلك من أجل الابناء وأريد منك ان تفعلي الشيء نفسه, وإذا حدث لا قدر الله ان تعذر علينا ان نستمر معا فلسوف أسرحها بإحسان وأعطيها نصف ما أملك دون طلب ومضت من حيانتا معا عشرون عاما كلمح البصر, وترقت زوجتي في عملها كمهندسة حتي تولت منصب مدير إدارة, وكانت تسافر كل أسبوع الي موقع عملها وترجع, بيتها وأسرتها وزوجها متلهفة, ولم يمنعها عملها من أن تكون زوجة كاملة لزوجها وأما رءوما لطفليها وربة بيت ناجحة, واستأثرت بحب كل أخوتي حتي لقد كان بعضهم يقولون لي إنهم يحبونها أكثر مما يحبونني فيسعدني ذلك كثيرا, لأنه يتضمن اطراء ضمنيا لي ولحسن اختياري لشريكة حياتي.

 

ثم كانت زوجتي جالسة ذات يوم في مسكننا تحتسي الشاي وقت الأصيل فإذا بها تصاب فجأة بنوبة قيء شديدة استمرت لمدة ساعة, وتم إجراء الفحوص اللازمة علي الفور.. فقيل لنا إن لديها حصوة في المرارة وتحتاج الي عملية عاجلة, وتم إجراء الجراحة, وأمضت22 يوما في المستشفي, ثم تحسنت حالتها وسافرنا لقضاء فترة نقاهة بالإسكندرية استردت خلالها زوجتي صحتها تماما, وإتصلت بالشركة وطلبت ارسال سيارة العمل إليها لكي تذهب الي مكتبها ـ وقبل أن تصل السيارة كانت نوبة القيء الشديدة قد عاودتها مرة أخري ورجعنا للمستشفي وتم إجراء جراحة أخري ثم توالت المتاعب بعد ذلك.. ونوبات المرض والعلاج والعذاب المؤلم, ودخلنا في دوامة عصيبة لا أريد أن أزعج بها أحدا, وسأكتفي بأن أقول إن زوجتي الحبيبة قد قاومت المرض الغادر بشجاعة كبيرة وأمل أكبر في الشفاء لمدة خمسة أشهر, ثم فاضت روحها الطاهرة فجأة وعمرها ثلاثة وأربعون عاما و27 يوما.

وبالرغم من إيماني الشديد بقضاء الله وقدره وتقبلي له, واقتناعي بردك علي كاتب رسالة دفن الذكري الذي فقد شريكة حياته أيضا بعد رحلة حب ووفاق جميلة, فإنني أتذكرها في كل وقت وفي كل مكان تحركت فيه وأعيش في ذكرياتي الجميلة معها, وأشعر بوجودها الي جواري.. وأتذكر كيف كنت أحس وأنا عائد إلي البيت كل يوم انني ذاهب إلي موعد غرامي يومي سألتقي فيه بحبيبتي لأول مرة, ثم أفيق من تخيلاتي علي الحقيقة المرة وأشعر بأن جزءا مني يرفض تصديق ما حدث فاستغفر الله وأدعوه أن يلطف بنا في قضائه لقد تعلمت من هذه المحنة أن المرض ليس بعيدا عن أحد, وأن الفرق بين الصحة والمرض خيط رفيع لا نشعر به ويمكن لأي منا تجاوزه في أية لحظة, وأن الحياة قصيرة جدا مهما طالت وما يبقي للإنسان هو العمل الصالح الذي يولد الذكري الطيبة. فعلينا ألا نغتر بما وهبنا الله عز وجل من صحة وعافية, وعلينا أيضا ألا ننظر إلي الموت علي أنه طائر يحلق بعيدا عنا لأنه قد ينقض فوق رأس أي منا في أية لحظة.

وإني لأشهدكم الله أنني راض عن زوجتي كل الرضا لإنها كانت نعم الزوجة ونعم الأم, ولأنها كانت ـ يرحمها الله ـ من أشد المعجبين ببريد الجمعة والمواظبين علي قراءته وكذلك أنا, وكنا نتسابق يوم الجمعة علي من يحصل علي جريدة الأهرام أولا ليقرأ البريد, ثم نجلس معا لنتناقش فيما قرأناه, وحرصا مني علي فعل شيء يرضيها وتثاب عنه بإذن الله تعالي فإنني أتبرع نيابة عنها بكل الأدوية التي لم تستخدم وبعضها غير متوافر بمصر عسي أن يكون أحد قراء البريد محتاجا إليها.

كما أتبرع نيابة عنها بمبلغ(....) ليكون نواة لإنشاء وديعة ينفق بريد الأهرام عائدها السنوي كصدقة جارية في أحد وجوه الخير الذي يحدد بمعرفتكم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول:

جاء في الكتاب المقدس, أنه من فيض القلب يتكلم الفم!

ولأن ما يصدر عن القلب يكون دائما صادقا وأمينا, فلقد جاءت كلماتك عفوية ونابضة بالحب والوفاء والإعزاز لشريكة الحياة الراحلة يرحمها الله.

فأما ذلك الإحساس الغامض الذي امتلأت به فجأة حين رأيتها لأول مرة في ذلك الحفل القديم, فهو إحساس صادق قد ينتاب البعض بالفعل حين يلتقون علي غير موعد بأشخاص يشعرون في أعماقهم ولغير اسباب واضحة في اذهانهم بأنه سوف يكون لهم شأن معهم ذات يوم, ولاشك أنه صورة من صور تآلف الأرواح اللحظي.. أو الحدس.. أو التمني, فإذا جمعت الأيام بين الطرفين ذات يوم, فإن الأغلب الأعم هو أن تتشابك خيوطهما معا.. وتتمازج القلوب والمشاعر.. ويتشارب الطرفان رحيق الوفاق والسعادة.

ولاعجب في ذلك, فالصوفية يقولون لنا إن المحبة هي الموافقة, أي الطاعة له فيما أمر والانتهاء عما زجر, والرضا بما حكم وقدر ومع أنهم يتحدثون في هذه العبارة عن الحب الإلهي, إلا أن الحب البشري كذلك لايخرج عن حدود الموافقة أو الوفاق.. والطاعة المتبادلة فيما يحب كل طرف من الآخر.. والانتهاء عما يكرهه له أوفيه ويأباه.

ولاشك في أن تفكيرك في إجراء هذه الصدقة الجارية علي روح شريكة الحياة الراحلة قد جاء في هذا الإطار, وهو إطار أن يفعل المرء ما يعرف جيدا أن المحبوب الراحل كان سيسعد كثيرا به لو كان مازال في الجوار.

بل ان توافرك علي كتابة هذه الرسالة نفسها قد جاء أيضا في سياق الرغبة في إسعاد المحبوب حتي ولو كان قد انتقل من عالمنا إلي العالم الأفضل!

لقد قال الروائي الإنجليزي جراهام جرين ذات يوم إنه ليس من السهل أن يفقد الرجل امرأة طيبة وجميلة.

والمؤكد أنه ليس من السهل أيضا علي المرأة أن تفقد رجلا طيبا وعطوفا, لكن تجارب الألم والفراق قد علمتنا من ناحية أخري أن الأشخاص الذين نحبهم بصدق لايرحلون عنا أبدا ولو غابوا بأجسامهم عن ناظرينا, وعلمتنا كذلك كيف نقول وداعا للأشياء الجميلة في حياتنا حين تحين لحظة الوداع ويسدل الستار عن فصل سعيد من فصول الحياة.

وهو كما تقول لنا مؤلفة رواية أنا والملك من أصعب دروس الحياة علي الإطلاق!

كما علمتنا في النهاية أن نقول مع المتنبي عند الضرورة:

تفضلت الأيام بالجمع بيننا.. فلما حمدنا لم تدمنا علي الحمد

غير أن الإنسان وإن نفث في بعض الأحيان عن بعض البخار المكتوم في صدره لايملك في كل الأحوال إلا أن يديم الحمد ويرضي بما حكم وقدر.. ويمضي في الحياة بقلب يخفق بالأمل.. في رحمة الله ويتطلع إلي غد تبرأ فيه كل الجراح.


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

Your Ad Spot