آخر الرسائل

Post Top Ad

Your Ad Spot

الخميس، 31 مارس 2022

من بريد الجمعه .. موسم الحصاد


  

أكتب لك رسالتي هذه بعد تفكير عميق. فأنا رجل في الثانية والأربعين من عمري. جئت من قريتي الواقعة في أعماق الجنوب بعد إنهائي الخدمة العسكرية لأبحث عن مستقبلي في القاهرة, وزودني أبي المزارع البسيط برسالة توصية شفوية لابن عم له يقيم بالعاصمة ويملك مقهي صغيرا في أحد الأحياء وكان معي حين جئت إلي القاهرة 33 جنيها لا غير هي كل ما استطاع أبي الطيب أن يوفرها لي وركبت القطار مودعا بدعواته ودعوات أمي لي بالتوفيق في حياتي الجديدة, توجهت إلي مقهي ابن عم أبي أو عمي كما سوف أناديه وعرفته بنفسي فرحب بي في فتور وبدا واضحا من البداية أنني أمثل له هما ثقيلا أضيف إلي همومه.. لكن ماذا يملك الشاب المنقطع عن أهله سوي أن يبتلع مشاعره ويصبر علي ما لا يسره؟. وبعد أيام قليلة استضافني خلالها عمي في بيته وبدأت العمل معه إلي أن أنجح في الحصول علي وظيفة, ولفت هو نظري إلي أنني سوف أبيت في المقهي إلي أن تتحسن أحوالي ويصبح في مقدوري استئجار غرفة لإقامتي المستقلة. وأقرضني بطانية قديمة أصبحت هي فراشي وغطائي ومتاعي الوحيد في هذه المدينة القاسية. وبدأت عملي كمساعد جارسون بالمقهي, أقضي يومي كله وجزءا كبيرا من الليل ألبي طلبات الزبائن.. وأشتري لبيت عمي ما يحتاج إليه, وأنهي يومي الشاق بمسح المقهي, ثم أفرش البطانية وألقي بجسمي المتعب عليها فأروح في نوم عميق4 أو5 ساعات علي الأكثر, ثم يفتح المقهي أبوابه من جديد ويبدأ يوم العمل التالي.. واستمر الحال علي هذا النحو عامين تحملت فيهما الكثير والكثير من مناكفات الزبائن وعصبية عمي الذي لم يكن يتورع أحيانا عن صفعي أمام الزبائن لخطأ ارتكبته عن قلة خبرة.. أو عن جهل.. ولقد بكيت في أول مرة صفعني فيها عمي.. ليس لألم الضرب وحده ولكن لما شعرت به من هوان وانكسار وفكرت جديا في أن أترك كل شيء وأركب القطار عائدا إلي بلدتي وأبي وأمي وإخوتي لآكل الخبز الجاف معهم بدلا من هذا الذل.. لكني جبنت للأسف عن تنفيذ ذلك.. وكان أكثر ما أضعف عزيمتي هو مقدار الألم الذي سيشعر به أبي إذا عرف بمعاناتي وهو الرجل المصلي الصوام الذي يدعو ربه كل حين بالستر لنفسه وأبنائه.. وهكذا تحملت ظروفي وصبرت علي الأذي, وكان أحد الأساب التي ساعدتني علي الاحتمال هو زوجة عمي الطيبة التي تعطف علي وابنتها الكبري التي كانت في بداية الشباب وتتعامل معي باحترام وتهذيب.. وبعد عامين من هذا الشقاء نقص خلالهما وزني بضعة كيلو جرامات بسبب كثرة المجهود وقلة النوم.. وجدت لنفسي غرفة علي سطح بيت قديم بجوار بيت عمي, واشتريت سريرا حديديا قديما ومرتبة ومخدة ومائدة صغيرة ومقعدا وبعض أدوات المطبخ القليلة.. وأصبح لي مسكن مستقل في القاهرة الصاخبة.. وبدأت كذلك أكتشف أن عمي لا يعطيني الأجر المناسب لمجهودي الكبير.. كما بدأت أعرف أنه من حقي أن أنام8 ساعات كل يوم.. ثم أرشدني أحد رواد المقهي للتقدم لمسابقة للعمل بأحد البنوك وساعدني في استرجاع مواد المدرسة التجارية التي درست بها فكانت المعجزة هي أنني قد اجتزت الامتحان بنجاح وعينت في هذا البنك.

وبالفعل لم يسعد عمي بعملي الجديد لأنه سيحرمه من نصف مجهودي معه, لكنني لم آبه لذلك, واستمريت في العمل بالمقهي في الفترة المسائية.. وحين قبضت أول مرتب لي جلست إلي المائدة الصغيرة في غرفتي وكتبت لأبي خطابا قلت له فيه إن دعواته الصالحة ودعوات أمي قد آتت ثمارها.. وإنني أصبحت موظفا محترما بأحد البنوك الكبري ولي مرتب إلي جانب عملي الخارجي.. ثم أرفقت مع الخطاب حوالة بريدية بملبغ15 جنيها.

وبعد عدة أسابيع عدت إلي بلدتي في الجنوب في أول زيارة لأهلي بعد عامين وبضعة شهور وهطلت دموعي وأبي يحتضنني بعنف وأمي تزغرد في وجهي ودموعها تسيل وإخوتي مبتهجون وسعداء بالهدايا البسيطة التي حملتها لهم.. ثم جاء الأهل والأقارب والجيران يرحبون ويهنئون بالعودة والنجاح والتوفيق في العمل.. ورجعت إلي القاهرة وأنا أكثر عزما وإصرارا علي أن أبذل كل ما أملك من جهد لتحسين حالي ومساعدة أبي وكنت خلال وجودي معه قد صارحته بحبي لابنة عمي ورغبتي في الارتباط بها فشجعني علي ذلك مؤكدا لي أن والدها سوف يتشرف بمصاهرة موظف محترم وشاب مستقيم وناجح مثلي.. وأنه علي استعداد للحضور للقاهرة ليخطبها لي.. لكني اتفقت معه علي أن أجس نبض عمي أولا فإذا وجدت ترحيبا كتبت لأبي ليحضر للقاهرة, وفاتحت عمي برغبتي ففوجئت به يرفض بخشونة الموافقة طلبي.. ويذكرني بقلة إمكاناتي وكثرة أعباء أبي إلخ.. وصدمت صدمة أخري شديدة وامتنعت منذ ذلك اليوم عن العمل بالمقهي في المساء.. وعلمت من عامل المقهي أن زوجة عمي قد عاتبت زوجها علي رفضه لي لأني شاب طيب ومن لحمه ودمه وسوف أصون ابنتها أكثر من غيري فلم يغير رأيه.

وتفرغت لوظيفتي.. ثم بدأت بمساعدة الموظف الذي أعانني علي العمل بالبنك في ممارسة تجارة العملة وكانت وقتها مازالت محظورة رسميا ولست أخجل الآن من الاعتراف بذلك لأنها كانت تجارة مثل أي تجارة.. وقد تغيرت القوانين بعد ذلك وسمحت بها.. وخلال ثلاث أو أربع سنوات كانت أحوالي المادية قد تحسنت كثيرا وانتقلت من غرفة السطح إلي شقة معقولة بالبيت نفسه وتحسن مظهري الخارجي.. وانتظمت في إرسالي الحوالات البريدية لأبي وفي زيارة أهلي كل سنة.

كما لم أنقطع عن زيارة عمي في المقهي من حين لآخر.. وزيارة زوجته وأولادهما, وفي إحدي زياراتي هذه فاجأني بأن طلب مني تهنئة ابنة عمي علي خطبتها لتاجر ميسور الحال من معارفه.. فهنأتها وفي قلبي غصة لا يشعر بها أحد.

وانفجر بركان الغضب في داخلي ليس من عمي ولكن من الظروف القاسية التي تحرم الإنسان من تحقيق آماله في الحياة.. وتحول البركان إلي طاقة هائلة علي العمل لتحسين أحوالي وإشعار عمي بأن الصغير قد يكبر وأنه قد خسر صهرا وزوجا لابنته كان يمكن أن يتشرف به لو كان قد صبر قليلا عليه..

وازداد نشاطي في تجارة العملة كما تاجرت في السلع المعمرة.. أشتريها من تاجر تعرفت عليه وأبيعها لموظفي البنك والبنوك المجاورة ولزبائن المقهي بالتقسيط المريح وبهامش ربح رحيم. وفي أول الشهر أطوف علي المشترين لتحصيل الأقساط.. ثم توسع نشاطي أكثر فشاركت هذا التاجر نفسه في تجارته بعد أن أقرضته مبلغا كان في حاجة إليه..

وبعد أربعة أعوام أخري رغب هذا التاجر في التقاعد بعد أن بلغ السبعين وليس له ولد يواصل تجارته من بعده لأن كل ذريته من البنات المتزوجات, فدفعت له الثمن الذي قدره بالتقسيط وأصبح معرض الأدوات المنزلية ملكا خالصا لي وحافظت علي وظفيتي بالبنك إلي أن انتهيت من دفع الأقساط, ثم استقلت وتفرغت لتجارتي وكان قرارا جريئا مني لكني أقدمت عليه معتمدا علي ربي ثم ثقتي في نفسي وأنهي أخي الأصغر دراسته المتوسطة ورغب في المجيء للقاهرة فاستدعيته وكلفته بالعمل معي, وتركت له شقتي القديمة الصغيرة وانتقلت إلي شقة أفضل وازداد حجم تجارتي بعد عمل أخي معي.. وازدادت أرباحي فاشتريت بعد ثلاثة أعوام محلا آخر قريبا من محلي وكتبت لشقيقي25% من ملكية تجارته مقابل أن يديره ويحافظ عليه.. وجاءني دعاء أمي وأبي لي بالستر والصحة عبر التليفون شكرا لي علي ذلك..

ورأيت أن العمر يجري بي فتزوجت من كريمة تاجر من معارفي واستقرت حياتي.. وساعدت أبي في زواج الشقيقتين.. وشعرت بالرضا عن نفسي لذلك.. وجاءني شقيقي ذات يوم ليقول لي في خجل إنه معجب بفتاة تعمل في محل تجاري نتعامل معه ويفكر في خطبتها لكنه يخشي ألا أوافق علي ذلك لأنها من أسرة بسيطة.. فقلت له علي الفور: وهل كانت هناك أسرة أكثر بساطة من أسرتنا؟ اخطبها علي بركة الله وأنا معك قلبا وقالبا فالسعادة لا تتحقق بالمال وحده! فلم أدر إلا وهو ينحني علي يدي ليقبلها قبل أن أسحبها مستغفرا ربي.. ومقبلا شقيقي في جبهته.

وفوجئت بعد خطبته بأيام بعمي يزورني في محلي غاضبا ومعاتبا ومتهما إياي بالجحود وإنكار فضله علي, لأني لم أوجه شقيقي لخطبة ابنته الثانية بدلا من تلك الفتاة الغريبة التي لا تليق أسرتها بتاجر كبير مثلي!

وقلت له في هدوء إنني لا أستطيع إرغام شقيقي علي شيء لم يرده من تلقاء نفسه.. وأن زواج الغرباء لا شيء فيه مادام يحبها وتحبه ومنعني أدبي من أن أذكره بأنه قد سبق له أن رفض يدي الممدودة إليه وفضل علي هؤلاء الغرباء بسبب فقري وقلة حيلتي حينذاك.

وتزوج شقيقي وكانت الأيام السابقة لزفافه من أسعد أيام عمري فقد اجتمع فيها أبي وأمي وشقيقتي وزوجاهما وأبناؤهما.. ونزل الجميع ضيوفا علي.. وكعادتنا في بلدتنا أحيينا الليلة السابقة للزفاف في مسكني نغني ونطبل احتفالا بالعريس بين زغاريد أمي الشقيقتين وزوجتي وابتهاج أبي وافتخاره بي.. فلم أشعر بنفسي إلا وأنا أمسك بالعصا وأدعو شقيقي للتحطيب معي كما كنا نفعل ونحن طفلان صغيران ونروح ندور حول بعضنا البعض وهو ممسك بعصاه وأنا بعصاي وسط فرحة الأهل بنا ثم ننهي التحطيب بالعناق الحار.

وفي اليوم التالي زف لعروسه وسعد بحياته وشاركني الجميع الفرحة ما عدا عمي الذي لم يحضر الزفاف ومنع أسرته من المشاركة.

أما أبي وأمي فلقد اعتقلتهما في بيتي شهرا كاملا بعد الزفاف في حين رجعت الشقيقتان إلي بلدتنا.. ولم أسمح لأبي وأمي بالعودة إلا بعد أن ألحا علي كثيرا برغبتهما في ذلك وصاحبتهما إلي القطار وقطعت لهما تذكرتين بالدرجة الأولي المكيفة وقلت لأبي إنه قد عمل كثيرا وشقي طويلا وإنني أريد منه ألا يعمل بعد الآن في حقله الصغير أو في حقول الغير, وإنما يؤجر بضعة القراريط التي يملكها لأحد الأهل البسطاء ويستمتع هو بالراحة والجلوس أمام البيت وشرب الشاي والتسامر مع أصدقائه ومحبيه.. في الصباح.. وفي الأصيل.. بعد أن أكرمني ربي وأغناه هو عن أن يواصل العمل وهو في شيخوخته.

وركب أبي وأمي القطار وهما يدعوان لي بالستر في الدنيا وفي الآخرة.

ولقد أطلت عليك كثيرا وأشعر الآن بأنني يجب أن أنهي خطابي هذا بالوصول إلي المشكلة التي دفعتني للكتابة لك..

فالمشكلة هي أن ابنة عمي التي أحببتها في بداية كفاحي بالقاهرة والتي حرمني منها والدها ـسامحه اللهـ قد ترملت منذ عامين بعد أن مرض زوجها ـيرحمه اللهـ قبل وفاته بعدة سنوات بمرض خطير استنزف معظم ماله.. ثم رحل عن الحياة ـيرحمه اللهـ تاركا لها ثلاثة أبناء وغرقت هي في مشكلات عديدة مع إخوته حول ما تبقي من ميراث.. وتدخلت أنا لديهم لمساعدتها علي الحصول علي حقها فلم تحصل إلا علي أقل القليل..

ومنذ وفاة زوجها.. وعمي يكثر من زياراته لي.. واسترجاع ذكريات بدايتي معه كأنما يقول لي إنه لولا أن ساعدني وأتاح لي فرصة العمل معه, لما وصلت لما وصلت إليه الآن.

ثم فاتحني بعد ذلك صراحة في أن من واجبي أن أستر ابنته وأتزوجها علي زوجتي لكي أرعي أبناءها وأحميهم من غوائل الدهر لأن العمر قد تقدم به ويريد أن يطمئن علي ابنته قبل مجيء الأجل المحتوم وإذا لم أستر أنا ابنته وأحمها فمن ذا إذن الذي يسترها ويحميها وهي من لحمي ودمي.. ولوالدها حق علي؟!

ولست أنكر عليك أنني شعرت في بداية حديثه معي بشيء من الاضطراب, لكني سرعان ما تمالكت نفسي وأدركت أنني مقبل علي طريق صعب قد يؤثر علي حياتي وتجارتي وعملي, فأنا مستقر في حياتي الزوجية.. ولي من زوجتي طفلان.. وهي سيدة فاضلة وطيبة وأم حنون علي أبنائها.. وتحب أهلي وتحترمهم ولم تشعرني ذات يوم ببساطة أسرتي بالمقارنة بأسرتها.. ولقد رضيت بحياتي معها وإن كانت مشاعري تجاهها مختلفة عن مشاعر الحب العنيف الذي شعرت به تجاه ابنة عمي في شبابي.. فهي مشاعر هادئة لا لوعة فيها ولا وجد.. لكنها وفرت لي الاستقرار والأمان.. وأطلقت قدراتي علي العمل حتي حققت أكثر مما كنت أتمناه لنفسي من نجاح مادي.. وتأمين للمستقبل وحياة كريمة لأسرتي ولأهلي.. وبفضل حكمتها اشتريت شقة جميلة.. وأصبح لنا شاليه في الساحل الشمالي وسيارة فاخرة.. ورصيد محترم من المال.. لكن عمي من ناحية أخري يلح علي برغبته ويكثر من دعوتي للغداء في بيته وتشاركه زوجته الضغط علي, وابنة عمي تبدي تجاهي اهتماما شديدا.. وحنوا زائدا.. ويدور الكلام خلال جلساتنا حول حق الرجل في الزواج من اثنتين وثلاث وأربع بدون أن يعني ذلك أي ظلم للزوجة الأولي.. إلخ!

وبعصبيته المألوفة يكاد عمي يفقد صبره علي في أحيان كثيرة ويتشاجر معي لترددي في تلبية مطلبه باعتبار ذلك دينا له علي ويجب سداده وإلا كنت جاحدا وناكرا للجميل! خاصة أن أحواله المادية الآن سيئة وأحوال ابنته كذلك.

ولقد لاحظت أنني قد تأثرت في الفترة الأخيرة بهذا الضغط واضطربت أحوالي بعض الشيء ومازلت غير قادر علي مواجهة عمي بالرفض القاطع أو القبول الصريح.. علما بأن زوجتي لن تقبل بزواجي بابنة عمي بأي حال من الأحوال.. وسوف تتمسك بالانفصال إذا أقدمت عليه! وإنني أرغب في مساعدة عمي بالفعل لكنه لا يخفي عني في الوقت نفسه ما في إلحاحه علي بالزواج من ابنته من طمع في.. وضغط علي باتهامي بالجحود وإشعاري بأنني لست أصيلا مثله وهو الذي احتضنني وأخذ بيدي حين جئت للقاهرة.. فماذا تقول لي؟

 

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول:

قيل في وصف الصحابة الأكرمين ـرضوان الله عليهمـ أنهم كانوا يكثرون عند الفزع.. ويقلون عند الطمع بمعني أنهم كانوا يظهرون عند الشدة.. ويختفون عند توزيع الغنائم! فإذا كان عمك يتحدث عن الأصالة فهذا هو أحد أهم معاييرها.. أما أن يرفضك بخشونة وأنت شاب مكافح ويفضل عليك من هو أقدر منك ماديا علي توفير الحياة اللائقة لابنته مذكرا أو معيرا إياك وهو الأصح بفقرك وقلة إمكاناتك وسوء أحوال أبيك المادية وكثرة أعبائه, فإذا شققت طريقك في الحياة وعبرت أمواجها المتلاطمة بنجاح إلي شاطئ الأمان المادي.. جاءك معاتبا إياك لانصراف شقيقك عن التفكير في خطبة ابنته الصغري ومغريا لك في مرة ثانية بالزواج من ابنته الأرملة زاعما لك أن نكوصك عن ذلك أو ترددك إزاءه يعد نقصا في أصالتك أو نخوتك أو وفائك له, فليس ذلك من المنطق أو العدل في شيء كثير أو قليل.. ولا تفسير لابتزازه النفسي لك بتهمة الجحود سوي أنه يستخدم كل ما هو متاح له من أسلحة عاطفية لإحراجك وتحقيق ما قد أصبح يري فيه الآن أنه في مصلحة ابنته الأرملة ومصلحته, بغض النظر عن عدالة ذلك أو منطقيته.. إذ كيف يكون رد الجميل الذي يتوهمه هو بأن تعرض حياتك العائلية المستقرة للاضطراب.. وأطفالك الصغار للتمزق بين أبويهم؟

إن هناك وسائل عديدة لرد الجميل.. إذا كان ثمة جميل لكنه ليس من بينها بكل تأكيد أن تضحي باستقرار حياتك العائلية وربما العملية كذلك لكي تثبت لعمك أنك مازلت علي عهد الوفاء مقيم.. أو أنك مازلت الشاب الأصيل الذي كنته.

فالحق أنك كذلك بغير حاجة لإيلام زوجتك.. وتعريض زوجتك وأبناءك للمعاناة, كما أنك لست في حاجة لإثبات أصالتك هذه لأحد خاصة هذا العم الذي لم يكن هو نفسه علي قدر الرجاء فيه حين جئت إلي القاهرة شابا حائرا غريبا لا عون لك ولا سند سواه.

ويكفي تماما لإثبات أصالتك أنك كنت ومازلت نعم الابن البار بأبويه وإخوته كما كنت ومازلت أيضا نعم القريب الذي لم ينقطع عن عمه بالرغم مما لاقاه منه.

فإذا كان عمك يعتبر نفسه مساهما فيما حققته من نجاح مادي في الحياة العملية, فإن أهم أسباب نجاحك العملي وتوفيقك في الحياة إلي جانب إرادتك القوية وصبرك علي المكاره وكفاحك المرير ـفي تقديريـ هو برك بأهلك وإعانتك لأبيك وإخوتك علي أمرهم وعدم تنكرك إنسانيا لهذا العم بالرغم من كل شيء, فأي دور إذن لعمك هذا فيما حققت من نجاح؟ وأي دين له عليك يستوجب سداده أن تفقد زوجتك وتفرق أطفالك وتحرمهم من النشأة الآمنة بين أبويهما؟ إن عمك يستغل فيك يا صديقي أصالتك وحرصك علي الوشائج العائلية وعليه بالرغم مما لقيت منه من عنت بلغ في بعض الأحيان حد صفعك علي الملأ وعدم الترفق بك في ضعفك وقلة حيلتك.

ولقد أخطأ تقدير قدراتك ومميزاتك في البداية ويريد الآن أن يعوض بعض ما أضاعه علي ابنته بسوء التقدير وخطأ الحسابات ولقد قلت من قبل إنه ليس من حق من لم يشارك في بذر البذور ورعاية النبتة الصغيرة أن يأتي في موسم الحصاد ليطالب بنصيبه من ثمارها فإذا كانت أحوال ابنته المادية ليست علي ما يرام الآن فإنك تستطيع إعانتها علي أمرها ببعض زكاة مالك كما تستطيع أيضا إعانة أبيها إذا شاء ذلك بإقراضه ما يقيله من عثرته.. أو حتي بتوجيه بعض زكاتك له إذا كان مستحقا لذلك, والأقربون أولي بالمعروف دائما من غيرهم, لكنه ليس من العدل والحكمة أن تكون أمانتك لها بالزواج منها وتعريض حياتك العائلية والعملية للخطر والاضطراب.. ولقد قلت في رسالتك إن مشاعرك تجاه زوجتك تختلف عن مشاعرك السابقة تجاه ابنة عمك حين رغبت في الارتباط بها وإن مشاعرك تجاهها هادئة وليست ملتهبة كما كانت مشاعرك تجاه الأخري في بداية الشباب.. ولقد فات عليك إدراك قيمة هذه المشاعر الهادئة نفسها ومدي عمقها وتغلغلها في النفس والوجدان.. فالمشاعر الهادئة هذه ليست سطحية ولا ضعيفة الأثر في نفس من يحملها.. وإنما هي تيار متصل يتسم بالاستمرارية والثبات علي خلاف المشاعر الفوارة التي قد ترتفع إلي الذري العالية في بعض المراحل ثم تخمد وتهبط إلي سطح الفتور بعد حين.. وأكثر قصص الزواج نجاحا وتوفيقا واستمرارا إنما اعتمدت علي مثل هذا التيار الهادئ المتصل من المشاعر, أكثر مما اعتمدت علي الفوران العاطفي المتأرج دوما بين الحدة والخمود.

إنها مشاعر ينطبق عليها المثل الإنجليزي القائل: ببطء.. ولكن بثقة! وهي أحد أسباب تفرغك الذهني للعمل والابتكار والنجاح المادي فلا تستهن بهذه المشاعر أو بعمق تأصلها في أعماقك, فلسوف تكتشف بعد فوات الأوان أنها الأكثر دواما واستمرارا من تلك المشاعر الملتهبة التي تفور فورانها وتخمد بعد حين, واحرص علي زوجتك وأطفالك وحياتك العائلية المحترمة والمستقرة, واعتذر لعمك بحسم عن عدم قدرتك علي تلبية مطلبه بالزواج من ابنته راجيا لها السعادة والتوفيق مع من تلائمها ظروفه.. ولا يجيء ارتباطه بها وإنقاذه لها من مشكلتها علي حساب أسرته واستقرار حياته.. وشكرا لك علي ما في رسالتك القيمة هذه من جوانب إيجابية وإنسانية تعلي من قيم الكفاح والإرادة والبر بالأبوين والأهل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

Your Ad Spot