آخر الرسائل

Post Top Ad

Your Ad Spot

السبت، 2 أبريل 2022

من بريد الجمعه .. أغنية الطائر



أنا سيدة في بداية العقد الخامس من عمري, تزوجت منذ ثلاثين عاما برجل يكبرني بسبعة أعوام بالطريقة التقليدية, ولن أحكي لك عن تفاصيل حياتنا كثيرا فقد انجبت ولدا وبنتا ومضت بنا الحياة بمرها وحلوها وتحملت الكثير والكثير لكي أربي أبنائي وتخرجت ابنتي الكبري في كليتها النظرية وتخرج ابني ايضا في كلية الطب بعد ذلك بثلاث سنوات, وكنت قد بدأت ألاحظ علي ابنتي بعد تخرجها أنها قد بدأت تهتم بمظهرها كثيرا خاصة وهي جميلة وهادئة, وكان لنا جيران بنفس العمارة كنا علي صلة وثيقة معهم ونتبادل الزيارات والمجاملات في بعض الأحيان, ولهم ابن حصل علي مؤهل متوسط وسافر للخارج عدة أشهر عاد بعدها ليطلب يد ابنتي الشابة, ومن هنا بدأت المشاكل فلقد رفضنا طلبه رفضا شديدا لأنه غير مناسب لها من الناحية الثقافية والاجتماعية خاصة أن والده كان موظفا بسيطا وأنا ووالدها مدير عام. وفوجئت بابنتي تصارحني بأنها تحبه منذ سنوات ولاتريد منا شيئا لأن فتاها علي استعداد لتحمل جميع النفقات لإتمام الزواج.. وان من حقها ان تختار حياتها وثار والدها عليها ثورة عارمة ونعتها بأقسي الألفاظ وعاملها بقسوة حتي ساءت حالتها النفسية وهزلت تماما ولجأت ابنتي إلي خالها لكي يحاول إقناع والدها بالعدول عن موقفه, فحاول جاهدا ان تقنعه او يقنعني لكيلا نفاجأ اننا قد نخسر ابنتنا.. وتحت الضغط الشديد وافقنا ولكن بشرط ان يستكمل دراسته وينجح في أول عامين دراسيين ويشتري شقة فاخرة ويجهزها بأثاث فاخر وبعد ذلك.. يمكن ان تتم الخطبة.. وليس قيل ذلك ووافق الشاب وارتاحت ابنتي قليلا.. وبدأ الهدوء النسبي يعود للمنزل ولكني رأيت ابنتي سعيدة وقلقة في الوقت نفسه وذات يوم قابلتني إحدي صديقاتي وسألتني عن ابنتي وهل تمت خطبتها ابلبن الجيران أم لا.

فاعتبرنا إذاعته لأمر الخطبة إخلالا بالاتفاق الذي تم بيننا علي تأجيل كل شيء واعلنا انا ووالدها رفضنا القاطع لهذا الشاب لانه مستهتر وغير امين عليها ولم تفلح محاولاتها معنا او محاولات خالها مع اأبيها هذه المرة وعاود الشاب التقدم لزوجي مرة اخري بعد ان حقق بالفعل ماطلبناه منه ولكن والدها اعلن أنه يفضل أن تموت ابنته علي ألا تتزوج هذا الشخص ابدا.. واستمرت محاولات الشاب اليائسة حوالي4 سنوات.

وأرسل إلينا شيخ الجامع ذات مرة وأهله تارة اخري وحاول ان يذهب لاقاربنا تارة ثالثة وقوبل كل ذلك منا بالرفض القاطع ناهيك عن منع ابنتي من الخروج ومن مقابلة صديقاتها ومن التحدث بالتليفون, مع انتهاز كل فرصة لتذكيرها بأنها فاشلة لأنها فكرت في هذا الشاب وجعلته ندا لنا.. كما كان والدها قاسيا جدا معها وكانت تمضي أسابيع دون أن يكلمها أحد منا.. كلمة واحدة.

وإذا التقينا أنا أو أبوها بأحد من أهله في الشارع او علي سلم العمارة لم يسلم أحدنا علي الآخر ولم نرد السلام اذا بدأونا به.

وغرقت ابنتي في الحزن الصامت الذي لاتجرؤ علي التعبير عنه وراحت تحاول دائما استرضاءنا بأي وسيلة. كأن تشتري شيئا للمنزل أو تأتي بعشاء فاخر إلخ, وكنت اعرف جيدا أنها تحبه وانه يحبها ولكن كنت اقول لها دائما إنها حين تتزوج شخصا آخر فهي لن تفكر فيه وانها لابد ان تفكر ان تتزوج من شخص له مركزه ومن عائلة تليق بنا لان ذلك افضل لها ولأولادها.

وتقدم لها كثيرون.. وكانت دائما تحاول ان تخفي حزنها وقلقها ولكني كنت أقول لنفسي إنها عندما تتزوج بعقلها ستنجح وتنسي كل شيء.

وذات مرة حاولت ابنتي ان تحدثني في أمرها وتقول لي انه ينبغي ألا نحكم علي الشخص الا بعد أن نتكلم معه ونعرف كل شيء عن عمله وكفاحه وان الآلاف من خريجي الجامعات لايجدون اي عمل وانه يعمل بجد في مشروعه الصغير ويكسب كثيرا وانه يحبني جدا ويكفي انه تحمل الكثير من الإهانات في سبيلها ولكن اتهمتها بأنها خائنة لثقتنا فيها وعديمة الأدب وانني سأزوجها من اول عريس يتقدم لها حتي أتكتم فضيحتها.

 

وبالفعل تقدم لها شاب يكبرها بـ8 سنوات مهندس, ويملك كل الامكانات اللازمة لحياة زوجية سعيدة ووافقنا عليه وحددنا موعد الخطبة, وحذرت ابنتي من ان تظهر حزنها او عدم ترحيبها به فوافقت وحاولت بالفعل إخفاء حزنها وخيبة املها.. وتمت الخطبة وبعدها بأربعة أيام فقط سقطت ابنتي مغشيا عليها وهي تضع يدها علي صدرها وتتألم.. وصرخنا فزعين.. واستدعينا الطبيب.. وتبين أنها قد أصيبت بأزمة قلبية مفاجئة.. ونقلت علي الفور الي العناية المركزة بالمستشفي, وكانت اياما مريرة قضيناها امام باب الغرفة.. نترقب الأخبار وأشعر بالهلع الشديد علي ابنتي ويتمزق قلبي وأنا آراها محاطة بالخراطيم والأجهزة.. واسترجعت موقفنا منها وندمت عليه ندما شديدا وتمنيت لو كنا قد حققنا لها رغبتها قبل أن تمرض وتمنيت أن أموت أنا وتحيا ابنتي.. ومضت الأزمة بعد عناء شديد ونقلت الي غرفة عادية بالمستشفي.. وحذرنا الأطباء من أن حالتها النفسية سيئة ولاتساعدها علي استرداد عافيتها.. وفي هذه الأثناء لاحظنا أن خطيبها ابن الحسب والنسب قد بدأت زياراته لابنتي تتباعد.. واذا جاء فلمدة دقائق خاطفة لأداء الواجب ثم ينصرف.. ولاحظنا أيضا ان اهله قد تباعدوا عنا بعد الزيارات الأولي.. ثم لم يلبث ان جاءنا الخبر المؤلم بأن خطيب ابنتي يعتذر عن عدم إتمام الخطبة لأسباب يراها.. ولم يصارحنا بها وإن كانت واضحة كالشمس.. وهي انه لايريد لنفسه فتاة مريضة.. فاذا قلت لك اننا قد شعرنا حينذاك, بالحسرة الشديدة.. والغصة في القلب فلن أكون مغاليه.. واذا كان شيء قد خفف عنا هذه الغصة.. وجعلنا نراجع انفسنا فيما فعلنا فهو ذلك الشاب ابن الجيران الذي رفضناه بشدة وأهناه كثيرا.. والذي وجدناه في المستشفي امام العناية المركزة في الساعات الأولي من الأزمة يبكي بحرقة من اجل ابنتي ويتوسل إلينا أن نسمح له برؤيتها ولانعرف كيف علم بالخبر.. ولا كيف جاء بهذه السرعة.. وما أن سمحنا له بزيارتها حتي تحسنت حالتها خلال أيام, وراح يزورها في المستشفي كل يوم صباحا وظهرا وفي المساء.. ووقف بجانبها في هذه المحنة بأكثر مما فعل الآخرون.. واكتشفنا فيه كرم أخلاقه وطيبة قلبه وخوفه الشديد علي ابنتنا.. وتساءلت انا وزوجي: لماذا رفضنا هذا الشاب الطيب وكسرنا قلب ابنتنا وقلبه؟ ولماذا لم نكتشف فيه كل هذه السجايا حين كانت ابنتنا تحدثنا عنه وتتوسل إلينا أن نمنحه الفرصة لإثبات جدارته.

إنني اعترف ياسيدي أننا قد أخطأنا أنا وزوجي في الحكم علي هذا الشاب.. وفي الضغط القاسي الفظيع علي ابنتنا لكيلا ترتبط به, وتقبل خطبة غيره.. وأري الآن أن من حق أبنائنا بالفعل أن يختاروا حياتهم وشركاء العمر علي مسئوليتهم وبالتشاور معنا.. مادام هؤلاء الشركاء لايخالفون الشرع ولا الدين لأن هذا هو ما امرنا به ديننا, لكننا ننساه أحيانا في غمرة الاغترار بالدنيا.

لقد شفيت ابنتي والحمد لله ورجعت الي بيتها واستردت نضارتها السابقة..

وأعلنا خطبتها للشاب الذي أحبته وأحبها بصدق ورجعت ابنتي تتحرك في البيت كالطائر المغرد الذي يشدو بأغانيه وهي تفرش بيتها وتستعد لزفافها السعيد بإذن الله ـ وعرفنا بالتجربة ان صاحب المؤهل المتوسط كان افضل من صاحب المؤهل العالي الذي تخلي عن ابنتنا في أزمتها وأصبح خطيب ابنتي هذا ابنا ثانيا لنا.

والحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.. ان ابنتنا مازالت تحيا بيننا. وأنها سعيدة بحياتها واختيارها ورضائنا عنها وعن هذا الاختيار.

وأوجه ندائي الي كل أب وأم ألا يقفا في طريق سعادة أبنائهما وان يمنحاهم الفرصة لإثبات وجهات نظرهم والدفاع عنها.. مع الاستفادة الضرورية بنصائح الابوين في هذا الشأن, فالابناء هم درة حياتنا وينبغي لنا ان نحافظ عليها بكل مانملك.. وإني لارجو من كل قلبي ألا تعرف اي ام تلك المشاعر المريرة القاسية التي هصرتني خلال وجود ابنتي في العناية المركزة.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

 

 

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

من الطيور المغردة طائر ينتشر في المناطق المدارية من الصين والهند والملايو والفيلبين ويسمي بالطائر الخياط وقد سمي كذلك بسبب الطريقة التي يتبعها في بناء عشه فهو يبنيه من أوراق شجر عريضة يثني أطرافها الي الداخل ويعمد الي خياطتها ببعضها البعض بخيوط من حرير او صوف او من ألياف الخضراوات, ويستخدم منقاره كإبرة يثقب به طرف الورقة ويدخل الخيط ثم يجذبه من الناحية الأخري, ويثقب طرف الورقة المجاورة ويدخل الخيط في الثقب بمنقاره ويسحبه ويكرر هذه العملية بدقة وصبر عجيبين, وبعد أن ينتهي من البناء يبدأ في فرشه من الداخل بحشائش لينة أو من الشعر أو الوبر النباتي, ويفعل كل ذلك وهو يغرد أغاريده الجميلة تعبيرا عن ابتهاجه ببناء العش الصغير.. وتفاؤلا بالغد الآتي! وكذلك تفعل الآن ابنتك الغالية ياسيدتي وهي تبني عشها السعيد بإذن الله.. وبعد أن زالت عنها محنة المرض وغمة الحرمان ممن اختاره القلب.. ولا عجب في ذلك فالطيور الحرة الطليقة تغرد عند الابتهاج والإحساس بالأمان وتصمت عند الحزن وافتقاد الأمان والحرمان من الأليف.. وما أكثر ما قلنا إن تعاليم ديننا الحنيف تأمرنا بألا نرفض من نرضي دينه وخلقه, وأن نجمع بين المتحابين في رباط شريف ماداموا لم يخالفوا شرعا ولادينا ولاتتعارض أحكام القلب في اختيارهم لبعضهم البعض مع أحكام العقل. فالسعادة لاتتحقق بالشهادات العليا والمكانة الاجتماعية والأسرية وإنما بالوفاق قبل كل شيء وحسن اختيار الشريك وصدق الحب وعمق الرغبة في الاستقرار واعتدال المزاج النفسي وتقارب المستويات والميول والرؤي, ولقد يكون صاحب المؤهل المتوسط كفئا كريما لصاحبته مادامت تتوافر فيه شروط الكفاءة الأسرية والاجتماعية بل لعله يكون ايضا في بعض الاحيان اعلي درجة عائليا واجتماعيا من صاحبة الشهادة العليا, لكن استعداده الدراسي لم يؤهله لغير ما حققه من تعليم.. ولهذا فإنه لاينبغي إصدار الاحكام العامة في هذا الشأن أبدا, لكن المشكلة الحقيقية هي أننا قد طبعنا للأسف علي الميل الغريزي للاحساس بالتميز الاجتماعي أو الطبقي علي من هم أدني منا درجة.. أو نظنهم كذلك, فنتمسك بالفروق الصغيرة التي نستشعرها بيننا وبينهم, ويتضخم إحساسنا بها, وقد تكون هذه الفروق متناهيه الصغر الي حد تكاد معه ألا تري بالعين المجردة.

ولو أننا لم نستجب لهذا الميل الغريزي لاستشعار التميز علي الغير, ونظرنا للأمر كله نظرة تستهدي بروح التواضع الذي يحثنا عليه ديننا لأدركنا بغير عناء كبير أننا غالبا أبناء طبقة واحدة بدرجاتها المختلفة, ولايحق لأحدنا ان يتفاخر علي غيره بما أتاحته له ظروفه من نشأة أو تعليم أو كسب, فالكل مهما تطاولت قاماتهم صغار في النهاية امام الغني الأعظم جل شأنه وتقدست أسماؤه.

كما أن:

هبات الله لاتحصي ولكن

حياتك بينها أغلي الهبات

كما يقول الشاعر الأستاذ مظهر سعيد ولأن الأمر كذلك فليس من الرحمة أن نبدد أوقاتا ثمينة لاتعوض من هذه الهبه الغالية في معاناه وآلام وأحزان كان من الميسور لنا أن نوفرها علي انفسنا وعلي أعزائنا لو كنا قد تعاملنا مع الأمور بالفهم وبعد النظر والمرونة الكافية, وليس بالقهر والترفع غير المبرر وتحجر الرأي.. إن الرباط بين الزوجين يحتاج الي مزيد من العواطف الدافئة والدوائر المشتركة بينهما ثقافيا وإنسانيا.. ولم يكن اختيار ابنتك لفتاها الذي ارتبطت به عاطفيا.. مخالفا في شيء لشروط الكفاءة, سوي في شرط الشهادة التي لايتوقف أمامه الكثيرون لتقارب المستوي الثقافي غالبا بين معظم خريجي الجامعات وخريجي المعاهد المتوسطة, ثم اثبتت المحنة التي تجلو طبيعة البشر وتكشف عن دخائلهم أن الاختيار العاطفي للابنة كان بالفعل هو الاختيار الافضل لها خلقيا وإنسانيا.. وليس الاختيار الآخر الذي لم يصمد لأول اختبار, فإن كان ثمة فائدة لهذه المحنة فهي في أنها قد صهرت المعادن وأفرزت الأصيل من غيره, وحق لابنتك ولكم ان تسعدوا بما هداكم الله إليه.. وإن كان قد جاء عبر المحنة والألم والمشاعر القاسية.


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

Your Ad Spot