آخر الرسائل

Post Top Ad

Your Ad Spot

الأربعاء، 30 مارس 2022

من بريد الجمعه .. بدلة الســـهرة




كنت أود أن أكتب إليك قبل ذلك, لكن شاءت الظروف أن تأتي رسالتي إليك في هذا الوقت بالذات.. فأنا شاب نشأت في أسرة مكونة من أبي الموظف الصغير بمصلحة الميكانيكا والكهرباء, وأمي ربة البيت الطيبة, وخمسة أخوة وأخوات أنا أصغرهم.. ونقيم كلنا في شقة من أربع غرف بالدور الأرضي بإحدي عمارات حي العباسية القديمة, ولقد تمتعت في طفولتي المبكرة بعطف أبي وأمي وأخوتي خاصة أكبرهم, ثم رحل أبي عن الحياة, وأنا في السابعة من عمري وأكبر أخوتي في بداية عامه الثاني بكلية الهندسة, حيث كان أمله وأمل أبي أن يصبح مهندسا, فواجهت الأسرة مشكلة نفقات الحياة والدراسة لكل الأبناء. فقد كان معاش أبي ضئيلا ولا يكاد يكفي لإطعامنا فضلا عن نفقات التعليم, وذات يوم وجدت أمي تبكي بحرارة وأخوتي يطيبون خاطرها.. وعرفت من أختي والتي تكبرني مباشرة أنها حزينة من أجل ابنها الأكبر لأنه اضطر لكي يساعد أخوته وأمه إلي أن يتوقف عن الدراسة ليعمل موظفا صغيرا بالمصلحة التي كان يعمل بها أبي, وبالفعل عمل أخي موظفا صغيرا بمساعدة زملاء أبي بالمصلحة, ولم يشك من أقداره ولم يتوجع.. وإنما تقبل الأمر الواقع باستسلام ورضا وأصبح همه الأول هو إعالة اخوته وأمه, والحق أن أخي هذا كان منذ صغره إنسانا جادا يتحمل المسئولية, وكان أبي يقول عنه إنه ولد رجلا كبيرا وليس طفلا منذ البداية.. ومضت بنا الحياة وأصبح مرتب أخي ومعاش أبي الضئيل هما موردنا الوحيد, وأصبحنا نحن الاخوة نتوجه بمطالبنا إلي أخي هذا الذي أصبح أبا لنا ونحصل منه علي مصروفنا الشخصي, وكان دائما واسع الصدر ويتحمل حتي دلعنا ومغالاتنا في مطالبنا, ويحرم نفسه لكي يلبي طلباتنا, فكان يحرص علي أن نرتدي الملابس التي تحفظ علينا مظهرنا في حدود الممكن, ويقضي هو الأعوام بقميصين وبنطلونين يبدلهما في الصيف ويضيف إليهما بلوفرا قديما في الشتاء, ولا يشتري لنفسه قميصا جديدا إلا بعد إلحاح شديد منا ومن أمنا عليه, وحين ثقلت عليه مطالبنا ونفقتنا بحث عن عمل إضافي وتنقل بين عدة أعمال حتي استقر به المقام في مكتب هندسي عمل فيه ساعيا بعد الظهر, وقبل ذلك بلا غضاضة, ثم حدث ذات يوم أن بحث صاحب المكتب عن أحد مساعديه ليتولي تحبير رسم هندسي أعده فلم يجده, وغضب صاحب المكتب, فعرض عليه أخي أن يقوم هو بهذا العمل لإنقاذ الموقف, وسأله صاحب المكتب في عصبية: وما شأنك أنت بالرسوم الهندسية؟ فأجابه أخي في استحياء,

أنه كان طالبا بكلية الهندسة واضطرته ظروفه العائلية منذ سنوات للتوقف عن الدراسة, فاعتذر له صاحب المكتب عن حدته معه وكلفه بالرسم المطلوب ونفذه علي وجه مقبول. فرقاه من ساع إلي رسام هندسي واستعان بغيره للقيام بعمل الساعي وعامل البوفيه, واستقر الحال بأخي في هذا المكتب عدة سنوات كان دخله منه خير معين له علي مواجهة نفقاتنا, وتحسن مظهره بعض الشيء فاشتري لنفسه فميصين وبنطلونا بعد إلحاح شديد منا.

وخلال هذه السنوات تقدم أخوتي في مراحل التعليم وبلغت أختي الكبري المرحلة الجامعية.. وبلغ الأخ الذي يليها الثانوية العامة ووصلت أختي الوسطي إلي نهاية المرحلة الاعدادية, ووضعت أنا قدمي علي بداية المرحلة الاعدادية, وكانت أجمل أوقاتنا حين نجتمع حول شقيقنا العطوف يوم الجمعة ونتسامر معه ونتبادل الأحاديث والأمنيات الطيبة.. ونتحدث عن المستقبل حين نتغلب علي ظروفنا, وكان أخي هذا مهموما علي الدوام بأمرنا ومشاكلنا, فهو يذهب معي للمدرسة ليقابل أحد المدرسين ويحل معه مشكلة لي, ويذهب مع أخي طالب الثانوية العامة ليقابل الناظر ويحل مشكلة غيابه عنها لأسباب قهرية, وحتي المشاكل العاطفية كان يستمع إليها في صبر وفهم ويشير علينا بالرأي السديد, ولا يثور علينا ولا يتهمنا بأننا نعبث وهو يكافح لإعالتنا, بل يدافع عنا لدي أمي حين تغضب منا وتقرعنا وتذكرنا بتضحيات أخي من أجلنا وكيف أننا ينبغي أن نقابلها بالجد للانتهاء من دراستنا وتخفيف العبء عنه, وكان يقول لها دائما كلما شكت من سلوك أحدنا: أنهم شباب يا أمي ولابد أن يعبثوا بعض الوقت أو يخطئوا ثم يعودون للصواب في النهاية.

والحق أنني لا أدري حتي الآن من أين جاء أخي الكبير بكل هذه الحكمة والصبر, ربما لأنه تحمل المسئولية في سن مبكرة, وربما لتدينه وخشيته لربه, فلقد كان حريصا علي الفروض الدينية ولا يغضب من أحدنا إلا إذا استشعر تقصيره في أدائها..

وبرغم شبابه المتفجر فقد صرف أخي تفكيره عن الفتيات تماما طوال تلك السنوات, ولم يفكر في الحب ولا في الزواج لأن لديه ـ كما كان يقول ـ مسئولية كبيرة لابد أن يؤديها قبل أن يفكر في ذلك, إلي أن أحب بعد أن تجاوز الثلاثين فتاة تعمل معه في المكتب الهندسي وكتم هواه عنها لثقته من أن ظروفه لا ترشحه للارتباط بها, وظل علي هذا الحال عامين أدرك خلالها زملاؤه في المكتب أنه متيم بها في صمت وشجعوه علي مفاتحتها, وأكدوا له أنها تنتظر منه ذلك.. فتشجع أخيرا وفاتحها ورحبت به.. وأراد أن يخطبها لكن المشاكل المادية ومشكلة السكن حالت للأسف بينه وبين تحقيق أمنيته, فلقد قبلت زميلته بكل ظروفه لكن أبويها رفضا أن تتزوج وتقيم معه في شقة الأسرة, واشترطا عليه أن يستقل بمسكنه عن أخوته وأمه أولا قبل الزواج, ووافقنا جميعا علي ذلك لكنه لم يستطع تدبير شقة مستقلة ولم يتحمس للاستقلال بحياته عنا ونحن مازلنا نحتاج إليه ونعتمد عليه, ولم تستطع فتاته اقناع أبويها باستعدادها للعيش مع أسرته أو لم تتحمس جديا لذلك فتنازل من جديد عن حلمه بالسعادة ولم يكمل مشروع الخطبة وترك العمل في المكتب الهندسي لكيلا يعذب نفسه برؤية من أحبها بصدق ولم يستطع الارتباط بها, وبدأ يعطي دروسا خاصة في الرياضيات لطلبة المدارس الاعدادية في البيت ورأيته في هذه الفترة حزينا.. تطول فترات صمته وسرحانه, ويقضي أوقات فراغه في القراءة أو الصلاة أو الجلوس صامتا إلي جانب أمي.

ثم جاء خاطب لأختنا الكبري وكانت قد تخرجت وبدأت العمل كمدرسة بعقد منذ شهور فرحب به أخي.. وتفاهم معه علي كل شيء ولم يرهقه ماديا.. وانشغل عن أحزانه بإعداد جهازها وتدبير التكاليف بشق الأنفس, وأشرف علي كل شيء حتي تم زفافها وانتقلت إلي بيت زوجها بسلام. ورحلت أمي عن الحياة وبكيناها جميعا ودعونا لها بالرحمة والمغفرة, وأنهي أخي الأوسط تعليمه واحتاج إلي مبلغ من المال لكي يسافر إلي أسوان, ويبدأ عمله بالشركة التي عين بها ويواجه نفقات حياته إلي أن يقبض أول مرتب له, فدبر له أخي المبلغ المطلوب بالرغم من أنه كان مثقلا بأقساط ديون زواج أختنا, واستقر الأخ الأوسط في أسوان وأقام في شقة تابعة للشركة فأرسل لأخي يطلب منه أن يرسل إليه أختنا الصغري لتلتحق بالمدرسة الثانوية هناك ويتحمل هو مسئوليتها فيخفف بذلك عنه بعض أعبائه, لكن أخي أشفق علي أختنا من البعد عنا فرفض عرض أخينا شاكرا, وعرضت أنا أن أنضم إليه بدلا منها لنفس الغرض فرفض أيضا, وقال إنه لا يتحمل فراقنا خاصة بعد رحيل أمنا وزواج أختنا. ومضت السنوات وتخرجت أختنا الصغري.. وعملت وجاءها خاطب من أقاربنا يعرف كل ظروفنا ويقبل بها, فجهزها أخي للزواج وكبل نفسه من جديد بالأقساط والديون وهو لم يكد يفرغ من ديون زواج الأخت الأولي, وساعده شقيقي الأوسط الكيميائي بإحدي شركات أسوان بعض الشيء في نفقات الزواج, وساعدت أختي الكبري أختها بجزء من مرتبها واشترت لها بعض احتياجاتها وزفت الأخت لزوجها.. وخلا البيت الكبير علي وعلي أخي, وازددت اقترابا منه ولاحظت عليه أنه لا يكاد يخرج من البيت بعد عودته من المصلحة, وسألته لماذا لايخرج ويتنزه ويلتقي بالأصدقاء, فأجابني بأنه سيفعل كل ذلك إن شاء الله حين يتخفف من أقساط زواج الأخت الصغري..

وحصلت علي الثانوية العامة بمجموع كبير, وترددت في اختيار كلية الهندسة إشفاقا علي أخي من نفقات دراستها, خاصة أننا كنا قد فقدنا نصيب الأختين والأخ الكيميائي في المعاش. لكن أخي ألح علي باختيار الهندسة, وأكد لي أنه سيسعد كثيرا بأن أحقق الحلم الذي حالت الظروف القاسية دون أن يحققه هو لنفسه, فالتحقت بالكلية ونجحت في السنة الاعدادية, وفي اجازة الصيف سيطرت علي فكرة السفر إلي أمريكا للعمل خلال شهور الصيف كما فعل بعض أصدقائي الذين هاجروا قبل عام.. وعرضت الفكرة علي أخي وألححت عليه بأن يساعدني في ذلك عسي أن أستطيع جمع بعض المال للإنفاق علي دراستي, وواصلت الإلحاح عليه حتي استسلم في النهاية, ووافق علي مساعدتي بالرغم من رفض بقية أخوتي لذلك ولومهم لي لعدم استكمال دراستي, وبعد عناء شديد حصلت علي التأشيرة واقترض أخي من جهة عمله مبلغا من المال ليساعدني في شراء تذكرة السفر, وسافرت إلي أصدقائي وخضت التجربة وعانيت الكثير والكثير, وعملت غاسل صحون في البداية لمدة12 ساعة كل يوم, فما أن استقرت أوضاعي بعض الشيء حتي كان العام الدراسي الجديد قد أقبل وحان موعد العودة, فعز علي أن أقطع التجربة في بدايتها, واتصلت بأخي استأذنه في البقاء بأمريكا لمدة عام آخر وأطلب منه أن يقدم لي اعتذارا للكلية وأرجوه أن يوافق علي ذلك, وبعد إلحاح شديد وافق لكنه حملني أمانة أن أستكمل دراستي أيا كانت الفترة التي أقضيها في أمريكا, وإلا فإنه سوف يشعر بأنه قد أجرم في حقي حين وافق علي سفري, ووعدته بذلك صادقا.., وبكيت حين قال لي إنه يفتقدني ويفتقد صحبتي وضجيجي وحتي مشاكلي.. وأنه قد أصبح وحيدا تماما بعد سفري, وسألته لماذا لاتتزوج يا أخي وقد جاوزت الأربعين, وتحسنت الظروف وأصبحت الشقة خالصة لك.. فوعدني بأن يفكر في ذلك وانشغلت بحياتي الجديدة واستطعت بعد جهد جهيد الحصول علي الاقامة واستقررت في عمل أفضل.. وانتهي العام الثاني وحان موعد العودة لكني أشفقت علي نفسي من أن أفقد اقامتي بأمريكا إذا عدت, فكتبت لأخي أشرح له ظروفي وأرجوه ألا يغضب مني وأطلب منه أن يبعث إلي أوراقي الدراسية مترجمة ومعتمدة من وزارة الخارجية لكي ألتحق بإحدي الكليات في أمريكا وجددت عهدي له بأن أستكمل دراستي مهما كانت الصعوبات, وغضب مني أخوتي جميعا لذلك ما عدا أخي الأكبر الذي تسامح معي كالعادة وأرسل إلي أوراقي وجدد طلبه لي بإنهاء دراستي مهما حدث. وواصل هو حياته كأعزب وحيد وأرسلت إليه بعض النقود كرد لديونه علي.. وطلبت منه أن يسدد بها الأقساط المتراكمة عليه ويوسع علي نفسه ببقيتها وسدد أخي ديونه, وتنفس الصعداء.. وتحسنت أحواله, واسترحت حين علمت أن أخوتي لا يتركونه وحيدا لفترات طويلة وأنهم يزورونه باستمرار ويدعونه لزيارتهم, حبا له وعرفانا بفضله, كما ارتبط أخي الكيميائي بزميلة له في أسوان وتزوجها هناك وأقام معها واجتمع أخوتي كلهم في ضيافته بأسوان, وشهدوا زواجه وسعدوا به ما عداي للأسف, لأني واجهت مشكلة التجنيد وخشيت إذا عدت لمصر ألا أستطيع السفر مرة أخري, وتوالت السنون وأخي يعيش وحيدا ولا شاغل له سوي متابعة أحوالنا والاهتمام بأمرنا.. والجلوس في المقهي في المساء بعض الوقت, والقراءة, وأداء الفروض الدينية, وقد وفيت بوعدي له وحصلت بعد عناء علي شهادة في الكمبيوتر وعملت بعمل جيد وأصبحت لي شقة جيدة وسيارة, وجددت رجائي إليه أن يتزوج قبل أن يفوته القطار.. وأشركت أخوتي في الإلحاح عليه بذلك بعد أن شعرنا بأنه قد زهد الزواج بعد قصته الأولي التي حرم من استكمالها بسبب الظروف القاسية, ولكم كانت سعادتي حين تلقيت منه ذات يوم رسالة يقول لي فيها إنه التقي بسيدة مطلقة في الخامسة والثلاثين من العمر ولها طفلة عمرها7 سنوات, وشعر لأول مرة منذ سنوات طويلة بمشاعره تتحرك تجاهها وأنه يفكر في أن يتقدم إليها بعد أن استشعر ميلها إليه, واتصلت به هاتفيا وزغردت في الهاتف تعبيرا عن فرحي وسعادتي بذلك وأقسمت عليه برحمة أبينا وأمنا ألا يدع هذه الفرصة تفلت منه, وألا يحرم نفسه من السعادة التي يستحقها, وأكدت له أنني سأرجع إلي مصر لحضور زفافه بعد غياب نحو عشر سنوات, وسأرسل إليه مبلغا كبيرا لإعداد الشقة للزواج وتجديدها وشراء كل ما يلزمه, وأرسلت إليه ـ رغم رفضه, ومحاولته الاعتذار لي ـ مبلغا مناسبا وقدم له أخي الأوسط هدية مالية مناسبة قبلها منه بعد إلحاح. وتم عقد القران في غيابي ووصف لي أخي الأوسط فرحته وفرحة أختينا بسعادة أخينا الأكبر وخجله خلال عقد القران حتي فاض قلبي له بالحب والوفاء وتمنيت لو كنت موجودا معه لأشاركه فرحته..

وسئل أخي عن موعد الزفاف فأجاب بأنه سيتم حين أستطيع أنا العودة لمصر والخروج منها دون مشاكل مع التجنيد, وكانت قد بقيت ثلاثة أشهر لاغير علي السن التي أستطيع فيها تسوية موقفي التجنيدي والسفر لأمريكا دون مشاكل, فتأجل الزفاف حتي ذلك الحين ورحت أنا أعد الأيام علي الموعد المنتظر وأستعد له.. واشتريت بدلة سهرة سوداء لأخي الأكبر.. ليرتديها يوم الزفاف وأبلغته بذلك واشتريت لنفسي بدلة مماثلة لي وثالثة لأخي الأوسط بناء علي طلبه..

وحجزت تذكرة السفر بعد10 أيام فإذا بأخي الأوسط يتصل بي هاتفيا ويقول لي بصوت غريب إن زفاف أخي قد تم تقديم موعده ويرجوني الحضور علي الفور لإدراكه ولو تركت كل شيئ.

ولم استرح لنبرة صوت أخي في هذه المكالمة, وسألته عما إذا كان قد حدث شيء فأجاب بالنفي وألح علي بالحضور لكيلا يفوتني حضور الزفاف ومشاركة أخي مناسبته.

ووضعت السماعة واعددت حقيبتي وأبلغت العمل باضطراري للسفر وركبت الطائرة عائدا لمصر.

 

وفي المطار استقبلني أخي الأوسط واجما, فتأكدت ظنوني وسألته عما حدث, فإذا به يقول لي إن شقيقنا الأكبر قد فاجأه وهو يستعد لزفافه نزيف في المخ ونقل للمستشفي وهو الآن في غيبوبة منذ يومين, وقد رأي من واجبه أن يدعوني للحضور لأراه حتي لا ألومه فيما بعد, وانفجرت باكيا في سيارة الأجرة, التي تحملنا من المطار وهرولنا إلي المستشفي وأطللت عليه وهو غائب عن الوعي في فراشه وإلي جواره زوجته التي لم يدخل بها بعد وشقيقتانا وزوجاهما.. وانفجرت مرة ثانية في البكاء وأنا أقبل وجه أخي ورأسه ويديه وقدميه وشقيقتاي تبكيان, وتجذبانني إلي خارج الحجرة وأنا أقاومهما وأقول له اشتريت لك بدلة الفرح يا أخي وأريد أن أراك ترتديها.

وبعد جهد جهيد استسلمت لأخوتي وخرجت إلي قاعة الانتظار, ورفضت العودة للبيت لأستريح من عناء السفر وأصررت علي قضاء الليل في القاعة, وفي الفجر انتهي كل شيء, ورحل أخي الحنون المضحي الصبور المعطاء عن الحياة بغير أن يسعد نفسه ويتزوج وينجب طفلا كما كان يتمني طوال عمره وقبل أن يحقق لنفسه حلم السعادة الذي تمناه طويلا بعد أن حرم من قبل من تحقيق حلمه في أن يصبح مهندسا, وضحي به ليعول أخوته ويحميهم من الضياع, مات ولما يبلغ بعد السابعة والأربعين من عمره, وكأنما قد أنهكه الكفاح والحرمان, وطوي صفحة عمره القصير

إنني أكتب إليك هذه الرسالة الآن من مسكننا القديم بالعباسية.. بعد عشرة أيام من رحيل أخي عن هذه الدنيا الظالمة, وأكتب لك وأنا أراه في كل مكان من الشقة.. وأراه في جلسته علي الكنبة البلدية التي احتفظ بها من الأثاث القديم, وكان يمضي وقت الأصيل جالسا فوقها خاصة في السنوات الصعبة يسبح ربه علي مسبحته ويفكر كيف يطعم هؤلاء الأيتام وكيف يكسوهم وكيف يدبر نفقات تعليمهم, فإذا طلب منه أحدنا طلبا ابتسم في وجهه وأشار صامتا إلي عينه اليمني ثم إلي عينه اليسري إشارة إلي أن الطلب مجاب إن شاء الله.. ولعله يكون في ذلك الوقت خاوي الوفاض تماما, لكنه سيقترض من زملائه إلي أن يقبض مرتبه.

إنني أشعر بحسرة شديدة.. وأشعر بالذنب تجاهه لأنني قد كلفته دائما فوق طاقته.. وأحزنته بهجرتي وقطعي لدراسة الهندسة برغم سعادته وتفاخره بحصولي علي الشهادة العالية من أمريكا, وأتمني لو رجعت الأيام لكي أواصل دراسة الهندسة من أجله وأحقق له أمله في, ولا أتركه لوحدته وعزوبيته حتي تلك السن المتأخرة.. وأنظر إلي بدلة السهرة السوداء المعلقة في غرفته وأبكي واستغفر الله العظيم وأنا اتساءل عن الحكمة في أن يعيش انسان طيب ومضح مثله في حرمان وعناء وكفاح معظم سنوات عمره حتي إذا ابتسمت له الأيام أخيرا ووعدته بالسعادة.. تنطوي صفحته علي هذا النحو فجأة, إنني حزين من أجله ياسيدي وحزين من أجل نفسي لاني أتجرع برحيله اليتم مرتين, ولا أدري ماذا أفعل لكي أؤدي له حقه علي وأرد له الجميل, وأتخلص من إحساسي بالذنب تجاهه.. فهل لديك ماتشير به علي أو تنصحني به.

 

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول:

هناك أشخاص يضيفون إلي الحياة الكثير ولا يأخذون منها للأسف إلا القليل.. ويضئ وجودهم حياة من حولهم, ويخصم غيابهم الأبدي من جمال الحياة وخيريتها, ولقد كان شقيقك الأكبر واحدا من هذا النوع من البشر الذين وصفهم الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه في معرض حديثه عن الأبرار والصالحين بقوله: هم القوم لا يشقي بهم جليسهم نعم لا يشقي بهم جليسهم, إنما يسعد, ويشعر بالثراء الروحي الذي تفيض به جوانحهم.. ويتمني المرء لو استطاع أن يحذو حذوهم وينهج نهجهم في الحياة.. لتزداد خيريتها وتنحسر مساحة الشر والقبح والأنانية فيها.. ذلك أن أهم ما يتسم به هؤلاء الأبرار هو السماحة والعفة والايثار وانكار الذات والعطاء واحترام مشاعر الغير ورعاية حرماتهم.. ألم تر كيف كان شقيقك المضحي الصبور يتقبل كل مطالبكم ولو ناء بها كاهله دون أن يفقد صبره معكم أو يشعر أحدكم بثقل عبئه أو يمتن عليه بما يقدمه له؟ أو لم تر كيف كانت تعني الاشارة الصامتة إلي عينيه حين يطلب أحدكم منه مطلبا من مطالب الحياة خلال السنوات الصعبة, إنه علي الرحب والسعة سوف يلبي له مطلبه ولو أرهق نفسه بذلك أو اضطر للاستدانة للوفاء به, وبغير أن يضيق صدره أو ينطق لسانه بما يزفر به غيره حين ينوء بمطالب الأبناء وتكاليف الحياة؟

لقد كان يرحمه الله أبا بالفطرة والعاطفة.. والمسئولية أكثر منه أخا أو شقيقا لكم, وبعض الأشخاص لهم طبيعة أبوية تغلب عليهم وتتحكم فيهم, فيتصرفون مع أشقائهم الضعفاء كما يفعل الأب الرحيم مع أبنائه, ولقد يفسر ذلك قول أبيكم عنه إنه يبدو كما لو كان قد ولد رجلا منذ طفولته وليس طفلا.. فكأنما كان يعد نفسه منذ الصغر لتحمل المسئولية عن اخوته.. أو لكأنما كان يدرك بطريقة غامضة أنه مرشح لأن يقود سفينة الأسرة بعد أبيه إلي شاطئ الأمان..

ولقد تحمل أمانة المسئولية بشرف وقاد السفينة باقتدار, وقدم بتضحياته وصبره وحكمته المثل والعزاء, فحتي عبث الصغار كان يتسامح معه بفهم وحكمة وصبر ويتجاوز عنه, ولايري في الظروف القاسية المحيطة بالأسرة مبررا كافيا لكيلا يكون الأطفال أطفالا لهم نزقهم وأخطاؤهم ولا لكيلا يكون المراهقون مراهقين لهم عثراتهم وحماقاتهم وكأنهم ليسوا بشرا كالبشر.. أو كأن الحرمان سبب كاف لتغيير الطبيعة البشرية وتطويعها لما يتوافق مع الظروف.

لقد كان شقيقك الأكبر قمة في الحكمة والتراحم, وهو يتفهم طبيعة الصغار ويتجاوز عن هناتهم ويدعو أمه للتجاوز عنها..

تذكرت وأنا أقرأ عن ذلك في رسالتك ما كتبه الروائي الروسي العظيم دستويفسكي في روايته المساكين علي لسان مقار ديوفشكين حين لاحظ أن أطفال جاره المعدم الذي يقيم مع أبنائه الثلاثة وزوجته في إحدي غرف البيت, لا يسمع لهم صوت ولا ضجيج كضجيج الأطفال, وأنه كلما عبر بباب غرفتهم المفتوح رأي الأطفال جالسين في صمت حزين وكأنهم يفكرون في أمور مهمة فكتب في أوراقه:

ــ لأشد ما أكره أن يصمت الأطفال وأن يستغرقوا في التفكير فما الطفولة إلا لعب وانطلاق, وأنه لمن المؤلم حقا أن يصاب الأطفال بالكآبة وأن يكفوا عن نزقهم.. وأخطائهم, ويتعقلوا!

نعم.. من المؤلم حقا أن يصمت الأطفال وأن يكفوا عن الضجيج وأن يستغرقوا في التفكير ويتصرفوا كالكبار بدعوي تقدير الظروف القاسية المحيطة.. فأي فهم راق للطبيعة البشرية.. كان شقيقكم الأكبر هذا يتعامل معكم به وأي حكمة وأي صبر؟

إن أمثاله ممن يتحملون مسئوليات إخوتهم قد يضيقون بأي هفوة لأخوتهم بدعوي أن الظروف لا تسمح بترف الأخطاء والهنات, ولقد يقسون عليهم من أجل ذلك ويجأرون بالشكوي من الصغار الذين لايقدرون التضحيات المقدمة لهم.. وكأنما يطالبونهم بأن يخالفوا فطرتهم التي فطرها عليهم الله سبحانه وتعالي مراعاة لظروفهم القاسية..

كما أن البعض قد يرون أن العطاء لمن يستحقونه لا عائد له في الدنيا, والحق هو أن عائده مؤكد في الدنيا والآخرة, وأنه ليس هناك عطاء يذهب سدي حتي ولو بدا لنا غير ذلك أو حتي لو تشكينا من الجحود والإنكار

وأي عائد لعطاء شقيقك لكم أعظم من هذا الحب العميق والاحترام الكبير والوفاء الجميل الذي حملتموه دائما له, بل وأي عائد أجل من حزنكم الصادق عليه وأساكم الشديد لرحيله عن الحياة قبل أن يسعد فيها بحياته مع من اختارها لصحبة السنين..

لقد كان الأديب البرازيلي باولو كويللو يقول: كلما ازداد استعدادك للعطاء ازداد بالضرورة ما تحصل عليه.

 

ولقد غنم شقيقك بعطائه لكم راحة القلب والضمير ورضا أمه عنه, ناهيك عن محبتكم له واعتزازكم به وعرفانكم له في حياته.. وحزنكم النبيل عليه بعد رحيله.. فأما جائزته الكبري فهي وفي السماء رزقكم وما توعدون إن شاء الله.

إنك تسألني كيف تؤدي إليه بعض حقه عليك وماذا تفعل لكي تتخلص من احساسك بالذنب تجاهه, وإني لأنصحك بإكرام صاحبته التي لم يمهله العمر لكي يبني بها وبعدم منازعتها في أي حق من حقوقها.. بل وبالسخاء معها في ذلك إكراما لمن اختارها لرفقة الحياة ورعاية لظروفها المؤلمة, وحبذا لو استطعت أن تجري علي روح شقيقك الراحل صدقة جارية في حدود قدرتك وإمكاناتك, وحبذا أيضا لو اقتديت به في تدينه وتراحمه وإيثاره لغيره وسماحته وصبره, وسرت علي نهجه في الحياة.. مع الدعاء الدائم له, والاستغفار من أجله, واتباع مثله العليا وقيمه الدينية والأخلاقية, وفي ذلك بعض الوفاء.. يرحمه الله.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

Your Ad Spot