آخر الرسائل

Post Top Ad

Your Ad Spot

الجمعة، 1 أبريل 2022

من بريد الجمعه .. اللقاء العابر

 


أنا طبيب في منتصف العمر متزوج منذ 28 عاما, ولي ابن تخرج في كلية وابنة في عامها الجامعي الأخير.. وقد وفقني الله سبحانه وتعالي في حياتي العائلية والعملية.. فعملت خارج مصر نحو عشرين عاما وحققت ثروة تكفيني وتكفي أبنائي وتكفل لنا ولهم حياة كريمة بإذن الله.

ومنذ شهرين فاتحني ابني بأن أحد زملاء شقيقته يرغب في أن يتقدم إليها بعد نهاية العام الدراسي الحالي, لكنه للأسف لا يملك شيئا وفهمت من حديث ابني إن شقيقته معجبة به بالرغم من ظروفه وتميل إليه ودهشت لذلك لأنها من النوع المتحفظ ومن الصعب عليها أن تكلم شابا غريبا عنها.. وسألتها عما أعجبها فيه, فأجابتني بأنه علي خلق ودين, وكان يتطلع إليها في صمت منذ بداية المرحلة الجامعية ولا يجرؤ علي مفاتحتها بمشاعره, إلي أن نظمت الكلية رحلة وطلبت هي مني السماح لها بالاشتراك فيها, وكانت أول رحلة تشارك فيها خلال دراستها فوافقت علي ذلك, لكنني اشترطت عليها أن تأخذ معها شقيقها, وفي هذه الرحلة تحدث هذا الزميل إلي ابني وشرح له ظروفه وعبر له عن رغبته في التقدم لابنتي.

ورفضت هذا الشخص بالطبع قبل أن أراه.. بل وهددت إبنتي إن هي تمسكت به بمنعها من الذهاب إلي كليتها.. وأنتهت هذه القصة عند هذا الحد.. ثم منذ اسبوعين حضرت حفلا أقامته إحدي شركات الأدوية فإذا بي أري فيه إنسانة لم تقع عيني عليها منذ ثلاثين عاما, فتصحو الذكريات القديمة.. وتهتز أفكاري.. فلقد كنت طالبا بالسنة الثانية بكلية الطب وكانت هي طالبة بالسنة الأولي, ولأننا كنا ندرس في مشرحة واحدة فلقد أكتفينا كثيرا بالنظرات الصامتة, وبعد معاناة طويلة تأكدت خلالها من أنها قد تملكتني تماما, تجرأت وفاتحتها برغبتي في الارتباط بها وتم الاتصال بين الأسرتين وأصبحنا شبه مخطوبين, وعشنا أياما سعيدة للغاية ونحن ننتظر الانتهاء من دراستي لكي أعلن خطبتي لها..

وفي هذه الأثناء مات والدي ـ يرحمه الله ـ فجأة ولم يترك لنا معاشا ولا ميراثا سوي قطعة أرض كانت محل نزاع بينه وبين بعض أقاربه, وبالرغم من أنه كان يكسب كثيرا من عمله بالمقاولات إلا أنه كان مسرفا ولا يدخر شيئا, لهذا فقد تدهورت أحوالنا سريعا بعد رحيله عن الحياة ولولا أن أمي كانت تحتفظ ببعض المصاغ وبدأت في بيعه للإنفاق علينا لما اجتزنا هذه المرحلة الصعبة بسلام.

وبسبب ظروف وفاة والدي واضطراب حياتنا من أثر ذلك رسبت في الامتحان لأول مرة, وشعرت بتغير موقف أهل فتاتي مني بعد الرسوب ورحيل الأب وتدهور الأحوال وبدلا من نظرات الترحيب والتشجيع التي كنت أراها في عيونهم بدأت أري نظرات الازدراء والاستهانة, وبدا واضحا لي أنني لم أعد العريس المرغوب لابنتهم وألح عليها الأهل في قطع صلتها بي فعرضت علي أن ترتبط وتقيم معي في بيت أسرتي إلي أن تتحسن الأحوال في المستقبل, لكن ظروفي العائلية لم تكن تسمح للأسف حتي بهذا الحل, ولم يكن هناك مفر من إنهاء قصة الحب.. وإعفاء فتاتي من ارتباطها بي..

وعشت أياما عصيبة بعد انتهاء قصتي معها أصبت خلالها باكتئاب شديد وأحسست إحساسا مريرا بالفقر والهوان وقلة الشأن.. ولازمني طيفها في خيالي طوال الوقت.. حتي أنني كنت أدعو الله في صلاتي أن ينزع حبها من قلبي وأبلل سجادة الصلاة بدمعي, ومع ذلك فإنني لم أحاول أن أتصل بها أو أتكلم معها بالرغم من توافر الفرص لذلك في الكلية.. وكنت حين أراها أمام المدرج أتظاهر بالحديث مع أحد الزملاء وتتظاهر هي بالحديث مع زميلة لها وكل منا يشعر بوجود الآخر بشدة.

وفي غمرة ضيقي وحزني واكتئابي صممت علي أن أكون شيئا.. فضاعفت من جهدي في المذاكرة بالرغم من عجزي ماديا عن شراء الكتب التي أحتاج إليها.. وضاعفت ساعات دراستي, وتخرجت في كليتي, وكانت فرحتي بنجاحي طاغية وغابت فتاتي السابقة عن أنظاري منذ ذلك الحين فلم أرها ولم أعد أسمع عنها شيئا منذ ذلك الحين.

وبعد نجاحي أرتبطت بإنسانة ممتازة وتزوجنا وبدأنا حياة زوجية هادئة وحصلت علي الماجستير من أول مرة, وسافرنا معا للعمل في دولة عربية, وأنجبنا الأبناء وسعدنا بحياتنا العائلية, ولم تشهد حياتنا الزوجية سوي تلك المناوشات الصغيرة التي تقع في كل بيت من حين لآخر, وأرضتني زوجتي دائما بجمالها وعقلها وحسن رعايتها لأسرتها وأبنائها.

وبعد عشرين عاما من الغربة قررنا أن نرجع إلي بلدنا ونستمتع بحياتنا ومارزقنا الله به من عطاء, فرجعنا واقتتحت لنفسي عيادة خاصة.., واشتريت مسكنا جميلا.. وشقة بأحد المصايف.. ورضيت عن نفسي وعن حياتي وأبنائي, ورضيت أخيرا كذلك عن امتثال إبنتي لقراري برفض زميلها.. الذي رأيت فيه صالحها.. ولم يساورني أي شك في ذلك إلي أن لبيت دعوة شركة الأدوية ورأيت في الحفل تلك الزميلة السابقة التي خفق قلبي بالحب قبل ثلاثين سنة ولم أكن قد رأيتها طوال تلك السنين, فإذا بي أعرفها للوهلة الأولي وإذا بها تعرفني فلا أرفع عيني عنها طوال الحفل.. وتتلفت هي نحوي كل حين.. وإذا بي أتساءل كيف اتسع قلبي لكل هذا الحب ذات يوم ؟ وهل يموت الحب حقا ؟

وإذا بهذا اللقاء العابر ينكأ جرحا قديما ويثير خواطري وأفكاري وشجوني فأتساءل: فماذا عن قلب ابنتي الشابة.. هل أحرمها هي الأخري من حب قد يكون أغلي شيء عندها الآن, لأن من ترغبه لا يملك شيئا وهل أحطم قلب هذا الشاب لمجرد أنه بسيط الحال ومستقبله لا يبشر بالخير, ومن أنا حتي أدخل في علم الله وأحكم علي مستقبله بذلك ؟ لقد كنت أتطلع لزواجها من ابن دبلوماسي مصري كان يعمل في الدولة التي كنا نقيم بها وهو شاب ممتاز بالفعل وتقدم لطلب يدها, لكني أرجأت البت في الموضوع لما بعد تخرجها.. وكان يقيني أن هذا هو الاختيار الأمثل لها وأن رفضي لزميلها هو القرار الحكيم الذي لا يداخله الشك, إلي أن ذهبت إلي هذا الحفل.. واهتز كياني كله وأهتزت أفكاري.. فبماذا تنصحني أن أفعل هل أختار لابنتي من يناسبها من وجهة نظري دون النظر لمشاعرها أم أوافق علي من أختاره قلبها ؟

 

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول:

أتدري ياسيدي ماهو الفرق بين الأب المستبد الذي لا يقيم وزنا لرغبات الأبناء الراشدين ومشاعرهم, وبين الأب العطوف الذي يضع هذه الرغبات والمشاعر في اعتباره ويحرص علي ألا يقهر أبناءه علي شيء ولو كان يري فيه مصالحهم ؟

إنه الفهم! فهم المشاعر.. والرغبات.. والدوافع.. والتجربة الإنسانية, فمن يفهم يكون أكثر استعدادا للعطف والتماس الأعذار وعدم التصلب في المواقف ومن لم يجرب ولم يفهم قد يصعب عليه استشعار أهمية مايبدو لغيره ضروريا وشديد الحيوية.

وأنت قد أتاحت لك التجربة الإنسانية التي عشتها في شبابك أن تتفهم مشاعر ابنتك إذا هي حرمت ممن تحبه وترغبه, بل وأيضا ومشاعر هذا الشاب إذا حرم من أمله فيها لغير ذنب جناه سوي ضعف إمكاناته المادية.

ونحن نحتاج لكي نحسن الحكم علي الآخرين ومواقفهم, أن نتمثل ظروفهم ومشاعرهم ودوافعهم إليها..

ولقد جاء هذا اللقاء العابر في حفل شركة الأدوية مع من خفق قلبك لها بالحب في سنوات الدراسة الجامعية, لكي يذكرك بما كادت شواغل الحياة المادية تنسيك إياه, وينبهك إلي أنه من الظلم حقا أن يحرم الإنسان من حقه المشروع في السعادة بمجرد أن هناك من يفضله في الإمكانات المادية والأوضاع الاجتماعية, أو لأن الآخرين لا يطيقون الصبر عليه حتي يبني حياته ويصمد لصعوبات البداية, كما أنه من الظلم أيضل ألا نحكم علي الغير إلا بالمعايير المادية وحدها ونتجاهل مقوماتهم الشخصية والخلقية والدينية والعائلية, وغيرها من المعايير الأهم.. فلقد تكون السعادة والتوفيق في الحياة مع البساطة والبداية الصغيرة, ولقد يكون الشقاء مع البريق واللمعان والوفرة المادية.

ولاشك في أن رحلة العمر وشواغل الكفاح وبناء الذات لم تفقدك بعد رقة المشاعر ولا القدرة علي فهم الاعتبارات العاطفية وتقديرها.., فأهاج هذا اللقاء العابر في الحفل أفكارك وخواطرك وذكرك بأهمية المشاعر في اتخاذ القرارات السليمة, مادامت لا تتعارض مع أحكام العقل, ولا تتصادم تصادما فادحا مع مقتضيات الحكمة وحسن تقدير الأمور, فكان جميلا منك أن تتمثل مشاعر ابنتك الشابة إذا هي حرمت ممن يرغبه قلبها.. وأجبرت علي الارتباط بغيره., حتي إذا ألتقت به بعد طول السنين تحركت شجونها كما ثارت شجونك ونحت باللائمة في أعماقها علي من لم يتفهموا عمق مشاعرها ذات يوم بعيد.

غير أن الأجمل أيضا هو أن تتمثل كذلك مشاعر هذا الشاب الذي يتطلع لابنتك بنظراته الصامتة منذ بداية المرحلة الجامعية ولا يجرؤ علي مفاتحتها برغبته فيها, إذ إنه ليس أقسي علي نفس الحر من إحساسه المرير بالعجز وقلة الشأن والهوان علي الآخرين. فلقد شكا الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه من مثل هذا الإحساس المرير إلي ربه حين ذهب إلي الطائف يعرض علي الناس دينه فآذوه وسخروا منه فأوي إلي حائط يستريح فيه وبث شكواه إلي ربه قائلا: اللهم إني أشكو إليك ضعفي وقلة حيلتي وهواني علي الناس.

وأسوأ مافي النفس البشرية, كما قال ذات يوم المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي ـ هو أن يقلد الإنسان مافعله به جلادوه مع الآخرين بدلا من أن يتعفف عن تكرار ماعاناه بنفسه مع غيره!

ولقد كان أهل فتاتك السابقة هم جلاديك الذين أشعروك حينذاك بالعجز والضعف والهوان, بغير سبب سوي ظروفك المادية التي لم تكن مواتية وقتها, فهل تكرر مافعلوه بك مع هذا الشاب ؟

إننا كآباء وأمهات نريد لأبنائنا دائما الأفضل والأرفع والأنفع, لكن من واجبنا خلال ذلك هو ألا نتجاهل كذلك مشاعرهم ورغباتهم المشروعة والتي لا تتناقض مع أحكام العقل والدين.

وهذا الشاب الذي تميل إليه ابنتك, وأحسب أن مشاعرها تجاهه أقوي من مجرد الميل وأكثر عمقا, زميل لها بنفس الكلية وعلي خلق ودين وليس في سجله العائلي والشخصي مايعيبه سوي أنه كغيره كثيرون تعوزه الإمكانات المادية بالمقارنة بما حققته أنت من نجاح مادي بعد28 عاما من الزواج, وبالتالي فإن رفضه قبل أن تراه لا يقوم سوي علي الاعتبار المادي وحده, وسوي علي رغبتك أنت لها في أن ترتبط بمن يفضله ماديا وعائليا, وأفضلية إنسان علي آخر من وجهة نظر الأب لا تعني الحكم علي المفضول بعدم الجدارة, وإنما تعني في الحقيقة أن كلا منهما جدير بالابنة, لكن ظروف أحدهما العائلية والمادية أكثر بريقا من ظروف الآخر, فإذا وضعنا في الاعتبار رغبة الابنة في المفضول ماديا واجتماعيا ومشاعرها تجاهه خاصة إذا تأكدنا من جديتها وعمقها, فإن ذلك يكفي تماما لترجيح كفته عند ذوي القلوب الحكيمة.

فليكن اختيارك إذن علي أساس امتحان أخلاقيات هذا الشاب الذي ترغبه إبنتك, واختبار طباعه وحسن معاشرته وصدق تدينه وصحة رؤيته للحياة وسلامة ظروفه العائلية مما يسوءه, لان هذا هو حقا ما لا يمكن جبره إذا أنكسر, أما الإمكانات المادية فإن الشجرة المثمرة تحتاج إلي بضع سنوات لكي تثمر ثمارها وتورق أوراقها مع الرعاية والعناية والصبر, كما حدث في حياتك الشخصية, وكما يحدث في حياة الأغلبية العظمي من البشر الذين يبدأون حياتهم بدايات صغيرة, ثم تورق أشجارهم وتثمر ثمارها الخيرة بعد حين.

ثم ماقيمة المال ياسيدي إذا نحن لم نعن به أبناءنا علي السعادة ؟ ولم كان الكفاح والعرق وعناء السنين إذن, إذا لم يكن لكي نستطيع ذات يوم أن نيسر لأبنائنا طريق السعادة ونزيح عنه أحجار الصعوبات المادية ؟

ليس من صالح الحياة أبدا أن نزيد عدد التعساء فيها اثنين كابنتك وهذا الشاب إذا كان بمقدورنا أن نتيح لهما السعادة بشيء من الفهم والتسامح والعطاء والتنازل عن بعض الاعتبارات المادية.

وإني لأترك لحكمتك كأب وإنسان ذاق لوعة الحرمان العاطفي من قبل, لغير سبب سوي المال أن تتخذ القرار السليم في هذا الشأن, وأذكرك فقط بالحكمة الإنجليزية القديمة التي تقول: تجربة آلمتني.. تجربة علمتني.. وشكرا.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

Your Ad Spot