آخر الرسائل

Post Top Ad

Your Ad Spot

الخميس، 31 مارس 2022

من بريد الجمعه .. الأب الحقيقي


أبكتني رسالة البيت الجميل للطفلة الحائرة التي تعيش مع شقيقها البالغ من العمر اثني عشر عاما فقط في مسكن مستقل بعيدا عن أمها وأبيها, وتشكو افتقادها وافتقاد شقيقها لأمهما, لأن والدها يرفض بإصرار أن يسمح للأم المطلقة أن تعيش مع أبنها وأبنتها في المسكن الذي وفره لهما ولا يسمح لها برؤيتهما إلا مرة كل أسبوعين ويحرم عليها الاتصال بها تليفونيا, كما أن الأم لا تستطيع توفير مسكن يجمع بينها وبين الطفلين, في حين يعيش الأب في بيت جميل مع زوجته الجديدة وأطفاله منها. وفي ختام رسالتها المؤلمة هذه تطلب منك الطفلة أن تجد لأمها رجلا متدينا يتزوجها ويقبل أن يعيش معها الطفلان ويصبح أبا لهما لكي يجتمع شمل الأم وأبنها وأبنتها تحت سقف واحد.

وقد يتساءل بعض القراء.. هل هناك مثل هذا الشخص الذي يرحب بسيدة مطلقه وأبنائها ويصبح أبا رحيما وعادلا لهؤلاء الأبناء ويتكفل بهم ماديا ومعنويا ويحنو عليهم بعد أن يكف الأب الطبيعي يده عن الانفاق عليهما تنفيذا لشرطه إذا ضمتهم الأم لحضانتها ؟.. ورسالتي هذه قد تجيب علي هذا السؤال.

فأنا شاب انفصل أبي عن أمي منذ أكثر من22 عاما.. وتنبهت للحياة فوجدتني طفلا صغيرا يلهو في بيت مزدحم بالبنات والأولاد.. وأمي الشابة الجميلة ترعاني وأنام علي صدرها كل ليلة في غرفة تنفرد بها في المسكن المزدحم, وفي البيت أم أخري أكبر منها سنا وأكثر تفرغا لملاعبتي ورعايتي, و أب كبير السن لا يراني مرة إلا ويعطيني شيئا من الحلوي, وهناك رجل آخر يظهر كل أسبوعين أو ثلاثة في صالون الشقة.. فيتكهرب الجو في البيت وتختفي أمي في غرفتها, وتسرع الأم الأخري الكبيرة بمساعدتي علي إرتداء ملابسي وهي توصيني بإلتزام الهدوء والأدب مع هذا الرجل الذي يجلس في الصالون لأنه أبوك.., وتدفعني دفعا إلي مصافحته والخروج معه من البيت فأخرج بعد شيء من المقاومة, وفي الخارج يحاول هذا الرجل إرضائي وشراء الحلوي واللعب لي.. فأنسي مخاوفي بعض الشيء وأتجاوب معه.. ونتمشي في الشوارع.. أو نذهب إلي الملاهي.. أو نزور رجلا كبيرا آخر وسيدة كبيرة أخري يقول لي أنهما جدي وجدتي, ثم يعيدني إلي البيت.. فأرجع ومشاعري تتراوح بين الإبتهاج بهذه الفسحة وبين الإرتياح لعودتي إلي أمي الشابة وفي غرفة النوم تنفرد بي أمي وتسألني بإهتمام عما فعلت مع هذا الرجل وماذا قال وماذا قلت له.. وهل سألني عنها ؟ وألم يقل لي شيئا عنها ؟ وألم يطلب مني إبلاغها أي شيء؟.. فأجيبها علي تساؤلاتها بما يعن لي وقتها ويفوتني لصغر سني بالطبع وإدراك ماوراء هذه التساؤلات المحرومة ولا أفهم إلا بعد سنوات سبب إكتئابها ووجومها حين أقول لها أنه لم يسألني عنها ولم يطلب مني أن أسلم له عليها أو أبلغها بأي شيء!

وتمضي بي الأيام علي هذا النحو, ثم يظهر في بيتنا رجل آخر ألاحظ إهتمام أمي الكبير وأبي الكبير به وحفاوتهما الزائدة بزيارته والجلوس معه في الصالون.. وألاحظ أيضا أن أمي تطلب مني حين يجيء الخروج من غرفتها وتغلق بابها عليها فيها لفترة طويلة ثم تخرج بعدها وهي كالعروسة في كامل زينتها وملابسها, وتدخل الصالون وأتبعها إليه.. وأجلس إلي جوارها وهي تتبادل الكلام مع هذا الرجل.. وأجده يحاول دائما الحديث معي وسؤالي عن ألعابي وأصدقائي, وأشعر بعد قليل من النفور المبدئي منه بالاعتياد عليه وأبدأ في الإستجابة لمداعباته, وأري وجه أمي الجميل يشرق بالبهجة حين تراني أتحدث إليه وآلفه.. ثم ينشغل البيت بأشياء جليلة.. وتكثر أمي الصغيرة والكبيرة من الخروج دون إصطحابي معهما.. وأفتقد أمي.. وأشكو للأب الأخر الكبير فينظر إلي بهدوء ويقول لي أنه سيحدثني كرجل ويتوقع مني أن أكون عند حسن ظنه.. ثم يسر إلي بالخبر المهم وهو أن أمي سوف تتزوج من هذا الرجل الذي آراه في الصالون خلال أيام وسوف يسافران معا في أجازة, وبعد عودتهما سوف أعيش معهما في مسكن جميل.. وأتمتع بحنان أمي وعطف هذا الرجل الطيب.. ولا أفهم مما يقوله شيئا إلا أنني سوف أعيش مع أمي في مسكن آخر وإن المطلوب مني هو الصبر علي غيابها بعض الوقت قبل أن يحدث ذلك.

ويتحقق كل ماقاله لي بعد فترة من الإنتظار.. وأنتقل إلي أمي في مسكن جديد.. ويصبح زائر الصالون هذا عضوا دائما في حياتنا الجديدة.. وأتعامل معه كما كنت أتعامل مع الرجل الكبير في بيتنا السابق.. وأبي الآخر الذي يدعوني للخروج معه مرة كل أسبوعين.. وأدرك رغم صغر سني أنه قد وافق علي بقائي مع أمي وزوجها الجديد, لأنه قد تزوج ورفضت زوجته أن يضمني إليه وحسنا فعلت لكيلا تحرمني من أمي وفي سن مبكرة أدرك أن ظروفي تفرض علي أن أكون مؤدبا ومطيعا مع زائر الصالون الذي أعيش معه.. ومع أبي الآخر كلما طلب أن أزوره وأن أشكره علي مايرسله لأمي من نقود كل شهر لتكاليف حياتي.

وشيئا فشيئا بدأت أتعود علي وجود زائر الصالون في حياة أمي وحياتي وبعد عامين أصبح لي أخ صغير أحبه وألاعبه.. كما أصبح لي في البيت الآخر أخت أخري لا أراها إلا حين أزور أبي وشيئا فشيئا أيضا بدأت أحب هذا الرجل الذي تزوج من أمي, وأتقبل كل توجيهاته لي بصدر رحب وألاحظ أنه رجل طيب ويصلي ولا ينهرني ولا يضربني أبدا ولا يصيح في وجه أمي, وإنما ينفذ كل رغباته بالهدوء والكلام الطيب. كما بدأت ألاحظ أيضا أن أمي تحبه وترعاه وتقول لي عنه أنه تعويض ربها لها وتلفت نظري إلي أنه يحبني ويخاف علي, ولا يبخل بشيء من مطالبي. وبالفعل فلقد أدخلني الرجل مدرسة لغات وأشرف علي تعليمي وتربيتي وعلمني أن أعرف ربي وأن أصلي الفروض في أوقاتها ثم بدأ يؤمني في الصلاة ويرفع يديه بالدعاء بعدها ويطلب مني أن أفعل مثله وأدعو الله أن يحفظني وأخوتي وأمي وأبي وجدي وجدتي من كل سوء

وحين بلغت مرحلة المراهقة.. وبدأت أتمرد علي بعض الأشياء.. كان هذا الرجل هو الذي يتدخل بيني وبين أمي ويصلح بيننا ويجلس معي في الشرفة وينصحني ويطلب مني أن أكون رفيقا بها لأنها قاست الكثير.., فلا عجب ان أحببته حبا من القلب لاني وجدت لديه حنان الأب الحقيقي.. ولم أجد مثله لدي أبي الطبيعي الذي يكتفي بإرسال المبلغ الشهري, ولا أجد حين آراه ماأتحدث فيه معه فيحل الصمت بيننا بعد تبادل السوال عن الأحوال.

وبعد فترة أخري, طلب أبي الآخر أن أنتقل إلي بيته لكي أكون تحت إشرافه في هذه المرحلة الحرجة من العمر, ولم أرحب بذلك في أعماقي لكن من كانت ظروفه مثلي لا يكون له حق الاختيار.

وانتقلت للإقامة معه مع زوجته وأخوتي منه, وعانيت الآمرين من زوجة أبي التي عاملتني من اليوم الأول علي أنني أبن ضرتها وليس كأخ لأطفالها, وأنزويت في غرفة يشاركني فيها أخوتي معظم الوقت ولم أرو لأمي وأبي الحقيقي شيئا مما أعانيه من زوجة أبي لكيلا أزيد من همومهما.., إلي أن مرضت مما تفعله بي زوجة أبي ولاحظ هو إكتئابي وإصفرار لوني الدائمين فسألني: هل أريد العودة إلي بيت أمي, ولم أجب علي سؤاله خوفا من إغضابه ـ فكرر السؤال ـ فلم أتمالك دموعي لكني لم أنطق بشيء فهز رأسه وأبلغني بأنني سأعود لأمي.. وكان يوم رجوعي إليها وإلي أخوتي وأبي الحقيقي عيدا.. وسرعان مااسترددت صحتي ولوني الطبيعي, وحصلت علي الثانوية العامة وضغط علي أبي لكي ألتحق بإحدي كليات الفن التي يفضلها لي ولم أكن أرغب في ذلك, لكني كتمت رفضي لكيلا أغضبه كعادتي معه ومع غيره وظللت عدة أيام لا أنام.. وأبي الحقيقي يسألني عما بي.. ويلح علي في السؤال.. وأنا لا أبوح بشيء إلي أن رجع من الخارج ذات مساء وبادرني متهللا بأنه أقنع أبي بعد رجاء طويل وعناء شديد أن يدع لي حق أختيار دراستي وكانت ليلة سعيدة في حياتي.. والتحقت بالكلية التي أرغبها بالرغم من احتجاج أبي وأمضيت سنوات الدراسة بتفوق وأبي الفعلي يشجعني ويسعد بنجاحي ويحتفل به احتفالا صاخبا ويطلب من ابنائه أن يقتدوا بي إلي أن تخرجت متفوقا وأديت الخدمة العسكرية عملت بوظيفة لائقة وبدأت اتطلع لما يتطلع له الشباب في مثل سني, وارتبطت عاطفيا بزميلة لي وفاتحت بمشورة أمي أبي الذي أحمل أسمه في رغبتي في خطبتها.. فرفض ذلك رفضا باتا وبغير ان يسمع أية تفاصيل قائلا لي أن الوقت مبكر جدا للتفكير في مثل ذلك. ولم يقتنع بكل ماقلته له من أنني أرغب فقط في تقديم الشبكة لفتاتي وأن أمامنا أربع سنوات إلي أن نتزوج وصارحت فتاتي بما حدث وأعفيتها من عهدها معي.. لكنها لم تقبل ذلك, وفوجئت بأمي بعد يومين تقول لي أنها اتصلت بها وأبلغتها استعداد أسرتها لقبول دبلتين فقط إلي أن تتحسن الأحوال, ووجدت أبي الحقيقي يدعوني للجلوس معه في الشرفة كعادته كلما أراد أن يتحدث معي في شيء مهم ويسألني هل تحبها حبا حقيقيا ؟ وأجيبه بالإيجاب فيقول لي: إذن لا تفرط فيها لكيلا تندم علي ضياعها من يدك ولسوف يعينك الله سبحانه وتعالي علي تكاليف الزواج, ثم يقول لي أنه حاول مع أبي كثيرا لاقناعه بالتقدم لأسرة هذه الفتاة.. وأصر علي الرفض فأستأذنه في أن ينوب عنه في أن يخطبها لي لأنه كما قال له والد أيضا لي فلم يجب بالرفض أو الإيجاب وإنما قال له أفعلوا ماتشاءون لكني لن أساهم في هذا الزواج!

وأتفقنا في هذه الجلسة علي أن نتقدم للأسرة بالدبلتين.. وفي الموعد المحدد ذهبنا إلي بيت فتاتي أنا وأمي وأبي الحقيقي وأخوتي منه, وفي الطريق فاجأني الرجل الطيب باخراج علبة مجوهرات قدمها لي سعيدا وهو يقول أنها هديته لي في مناسبة الخطبة, وفتحتها فإذا فيها أسورة ثمينة فصرخت من المفاجأة وطفرت الدموع من عيني.. وخطفت يده من علي مقود السيارة لأقبلها شكرا وعرفانا, وذهبنا إلي بيت خطيبتي وقدمنا الشبكة وسعدت سعادة طاغية.

وفي الأيام التالية سعدت بحياتي وخطيبتي وأمي وأسرتي, ولم يكدرني شيء سوي إصرار أبي علي ألا يزور أسرة خطيبتي أو يسمح لي بإصطحابها معي في زيارة لبيته لكي تتعرف عليه..

وبدأت أسرة خطيبتي تتحدث عن الشقة.. واجبت بأني أدخر نصف مرتبي وآمل أن استطيع دفع مقدم لشقةصغيرة خلال ثلاثة أعوام.., كما أن أمي سوف تساعدني ببعض مدخراتها من عملها.. وقد يساعدني أيضا أبي الطبيعي وهو قادر علي ذلك. ورويت لأبي الفعلي وأمي هذا الحديث.. فإذا بأمي تكشف لي عن فضل جديد من أفضال زوجها علي.. وهو أنه منذ عشر سنوات قد رفض بعد أن تحسنت أحواله المادية أن يسمح لها بإنفاق المبلغ الشهري الذي كان أبي يرسله لي وأصر علي ان تفتح به فتر إدخار باسمي في البنك لأستعين به علي أمري بعد الزواج وفتح لأختي وأخي منه دفترين مماثلين في نفس الفرع وواظب خلال السنوات العشر الماضية علي وضع المبلغ الذي يرسله أبي لي في دفتري.. وبالتالي فلن يكون حلم الشقة بعيد المنال إن شاء الله مع ماأدخره من مرتبي ولا يمكن أن تتخيل عمق ماأحسست به من حب وعرفان لهذا الرجل, ولا يمكن أيضا أن تتصور ماأصابني من هلع صادق حين رجعت من عملي ذات يوم فعلمت أنه قد فاجأته وهو في عمله أزمة قلبية نقل علي آثرها للعناية المركزة.. فهرولت إلي المستشفي. وأمضيت الليل واقفا علي باب الغرفة.. واعتصمت بالمكان ثلاثة أيام حتي تحسنت حالته ونقل إلي غرفة أخري وقضيت معظم الوقت معه وشعرت بالفخر والاعتزاز ونأا أري باقات كثيرة من الورد تنهال عليه وزوارا عديدين يطمئنون علي سلامته.

ومضت المحنة بسلام واسترددت اطمئناني للحياة وتعاقدنا علي شقة لكي نتسلمها بعد عامين ودفعنا مقدم الثمن وواظبت علي زيارة أبي الطبيعي مرة كل شهر في بيته بالرغم من تحفظه معي وجفاء زوجته لي وبرود مشاعر أخوتي منه تجاهي, وبالرغم أيضا من تمسكه رغم كل ماحدث بعدم زيارة بيت خطيبتي أو التعرف علي أهلها.. وقد فعلت ذلك طلبا لرضا ربي.. وأيضا لأن أبي الحقيقي كان يوصيني دائما بألا أقطع صلتي بأبي مهما حدث منه وأقترب موعد استلام الشقة وساهمت أمي بمدخراتها من عملها في دفع المهر.. ورفض أبي الطبيعي المساهمة فيه بدعوي أنه لم يكن راضيا عن الارتباط في هذه السن المبكرة وحددنا موعد الزفاف في شهر مارس من هذا العام عقب استلام الشقة وبدأنا نستعد للزواج, ثم فجأة أصيب أبي الحقيقي بنوبة قلبية أشد من لأولي ودخل العناية المركزة وأجريت له جراحة عاجلة.. وساءت حالته بشدة لمدة10 أيام ثم رحل الرجل الطيب عن الحياة مبكيا عليه كل من عرفوه, ووقفت في السرادق أتلقي العزاء فيه وأنا مكسور الظهر وأشعر باليتم الحقيقي والضياع والخوف من المستقبل. وبعد انتهاء الأيام العصيبة.. احتضنت أختي وأخي الصغيرين وقلت لهما أن أباهما وأبي لم يمت لأنه ربي رجلا سوف يتحمل مسئوليتهما من بعده ويرد إليه فيهما جيمله الذي اسداه له وطلبت منهما ألا يبكيا أباهما لأنه رجل صالح.. والصالحون في نعيم بالآخرة, وأعلنت أسرة خطيبتي أني لن أتزوج قبل مرور عام علي رحيل أبي الذي لم أشعر بحنان الأبوة إلا معه. وأصبحت أخرج من عملي فلا أذهب للقاء خطيبتي كما كنت أفعل في الأيام السعيدة وإنما أرجع إلي البيت.. وأتناول طعام الغداء مع أخي وأختي وأمي وألبي طلباتهم.. وأشرف علي مذاكرة الأخوة.. ولا أخرج في المساء إلا إذا اطمأننت علي كل شيء في حياتهم.

ولقد مضت الآن خمسة شهور علي وفاة أبي ولم تفارقني صورته ولا رنين صوته الهاديء الرزين في مخيلتي, وفي كل المواقف التي تواجهني فإني أتمثله.. وأتسمع صوته وهو ينصحني ويرشدني وأعمل بما كان سيقوله لي لو كان علي قيد الحياة.. وقد بدأت أمي تتمالك نفسها, وتقول لي أنها لم تسعد بالحياة وبالزواج إلا مع هذا الرجل الطيب.. وهي تضع صورته وهو يحتضنني من ناحية ويحتضن أمي وأخوتي من الناحية الأخري في صدر الصالون وتفتح بيتنا لأهله وأخوته وأبنائهم وتستقبلهم بحفاوة وحب وتقول أنها تشم رائحته في وجوههم.

ومازلت كما عاهدت هذا الرجل الطيب في حياته أحرص علي زيارة أبي مرة كل شهر ولا أحفل بتحفظه معي أو حتي تجهمه في وجهي أحيانا إعلانا عن استيائه غير المفهوم أسبابه مني, كما لا أحفل أيضا بالمشاعر العدائية الصامتة التي تكنها زوجته ضدي بلا سبب معلوم, وأعتبر هذه الزيارة واجبا دينيا اؤديه في صبر وأرجو من أدائه رضا ربي ومغفرته كما علمني أبي الحقيقي.

ولقد كتبت رسالتي هذه بعد أن قرأت رسالة الطفلة الصغيرة التي تطلب أبا لها ولشقيقها, وأبوها الطبيعي يعيش في بيته الجميل غير بعيد عنهما في المكان, لكي أقول لمن لا يصدق ان في الدنيا بالفعل رجالا من هذا النوع يمكن أن يكونوا آباء حقيقيين لمن لم ينجبوهم وآخرين ليسوا آباء لأبنائهم في الحقيقة ولو كانوا قد انجبوهم بالفعل من أصلابهم.. فأرجو أن تجتهد في إيجاد أب آخر كذلك الأب الطيب الذي تربيت أنا في أحضانه, لوالدة هذه الطفلة الحائرة.. وأرجو أن تعلم ان لك أجرا كبيرا بإذن الله إذا وفقك الله في إغاثة هذه الطفلة وشقيقها الحائرين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

كان أمير الشعراء أحمد شوقي يقول:

ليس اليتيم من انتهي أبواه من

هم الحياة وحلفاه ذليلا

إن اليتيم هو الذي تلقي له

أما تخلت أو أبا مشغولا

وبهذا المفهوم في أكثر يتامي الحياة المعنويين الذين يكابدون أقدارهم مع أم تخلت أو أب مشغول.. وما أرحم السماء بمن تعوضه عن أبيه أو أمه بأم حقيقية أو أب حقيقي.. لم ينجبه من صلبه فيحدب عليه ويتحمل مسئوليته الإنسانية والتربوية بهذا القدر من الأمانة التي تحملها عنك هذا الرجل الطيب. ولا عجب في أن تشعر عند رحيله عن الحياة باليتم الحقيقي والخوف من المجهول بعد أن انكشف عنك غطاء هذا الأب الأمين.

لقد تذكرت وأنا أقرأ رسالتك ما قاله الإمام المحدث ابن ماجه من أنه: خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه, وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه.

الرجل الصالح حقا وصدقا بك قد حماك من كثير من غوائل اليتم المعنوي وآثاره السلبية نفسيا وتربويا علي من يكابده. والآن فلقد جاء دورك ياصديقي لكي ترد الدين لصاحبه فتكون كما أراد لك أن تكون إنسانا بمعني الكلمة يرعي حدود ربه وينثر بذور الخير والعطف والرحمة والعدل في مجتمعه المحيط به.

فلقد أعطاك أبوك الحقيقي المثل في أن تكون إنسانا يضييء الحياة بوجوده فيها.. ويزيد من مساحة الحب والعطف والرحمة والعدل الإنساني في الدائرة التي يتحرك في مجالها. وعلمك كيف تكون إنسانا يعطي للآخرين فيجني ثمار عطائه لهم وللحياة حبا صادقا وعرفانا مخلصا له ووفاء لذكراه. والوفاء بالدين من شيم الأوفياء وأصحاب المروءات, فأد دينك علي خير وجه للحياة ولهذا الرجل الطيب الذي أحبك ورعي حدود الله فيك, ولم يفرق بينك وبين من أنجبهم من صلبه.. وقم بواجب الأب الحقيقي مع اخوتك منه.. بل ومع اخوتك الآخرين من أبيك الطبيعي اذا احتاجوا ذات يوم إلي مساندتك لهم في معركة الحياة.. فمن عرف قلبه الرحمة الصادقة لايفرق بين الضعفاء حتي ولو كانت جالة الحياة قد أبعدتهم عنه في بعض الفترات.. والإنسان هو ما يفعله كما قال ذات يوم المفكر الفرنسي اندريه مالرو وليس مايفعله به الآخرون.. ولقد لمست أنت كيف خلف أبوك الحقيقي وراءه كل هذا الأثر الطيب وهذه الذكري العطرة له بما قدم لحياته وبما التزم به في رحلته معها من قيم دينية ومثل أخلاقية, فكن مثله في نهجه مع الحياة وأحسن رعاية والدتك التي أخلصت لك الحب والعطف والرعاية ورعت مصالحك بأمانة مع هذا الرجل الفاضل, والتزم ببرك بأبيك الطبيعي حتي ولو لم يحسن الآن فهم طبيعتك الخيرة, فلسوف يأتي يوم قريب يعرف لك فيه قدرك وطيب معشرك وكريم خلالك, ولقد علمت أنت من البداية أنك لاترجو ببرك به رضاءه بقدر ماترجو به رضا من هو أعلي قدرا منه وأعظم شأنا سبحانه وتعالي. واستفد بتجربة أبيك الحقيقي في حسن معاشرة والدتك وفي الأثر العظيم الذي خلفه في نفسها ووجدانها في احسان عشرتك لزوجتك حين يجمع بينكما عسكما الصغير, كما لاتنس أيضا ماكنت تشعر به وأنت طفل حائر فرضت عليه ظروفه الخاصة أن يكون قليل المطالب, شاعرا بالانكسار النفسي ويكتم رغباته الحقيقية اتقاء لغضب الآخرين, ويحس إحساسا مبهما ومؤلما في نفس الوقت بأن من كان مثله لايملك حق الاختيار أو حق التعبير عما ينطوي عليه صدره من رغبات وأمنيات, وحاول بكل ماتملك من جهد أن تجنب أخويك الصغيرين مرارة هذا الانكسار النفسي وآثاره السلبية الغائرة علي الشخصية, فللصغار دائما ومهما كانت ظروفهم حق التعبير عن أنفسهم ورغباتهم وأمنياتهم بغير خوف من أثر ذلك علي من يرعون شئونهم ولهم أو ينبغي أن يكون لهم دائما مايكون لغيرهم ممن يعيشون حياتهم الطبيعية من حق الرفض والقبول وحق الاختيار. وبذلك تقدم للحياة أخوة أسوياء تجنبهم مرارة ما أحسست به أنت وأنت تقف أمام أبيك الطبيعي عاجزا عن التعبير له عن رغبتك في العودة للاقامة مع والدتك أو وأنت تكتم رغبتك الخفية في الالتحاق بكلية بعينها توهما منك أن مثلك لايكون له حق الاختيار. وخير الدروس هو ما نتعلمه من تجاربنا المؤلمة في الحياة وخير البشر هم من يسعون دائما لأن يجنبوا عزاءهم والآخرين ما عانوا هم من قبل مرارته وخبروا قسوته عليهم حين كانوا ضعافا حائرين.. والسلام.


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

Your Ad Spot