آخر الرسائل

Post Top Ad

Your Ad Spot

الخميس، 31 مارس 2022

من بريد الجمعه .. اختبار القوة


 

أكتب إليك لأعرض عليك قصتي.. فأنا رجل أقترب من الستين من العمر, أنهيت تعليمي, ثم عملت مع أبي في تجارته وتعلمت منه فنونها وأسرارها, وتلقيت عنه دروس تجربته, وكان من أهمها أنني ينبغي أن أكون قويا دائما وألا أضعف أمام الآخرين وإلا أكلتني الوحوش, فالدنيا في نظره لا تضم سوي وحوش ضارية وحملان وديعة, ولكل إنسان أن يختار الفئة التي يريد الانتماء إليها.., والحق أنني قد تعلمت الدرس جيدا.. ونلت دائما رضا أبي ومباركته لخطواتي.. وحرصت دائما علي ألا أكون في موقف الضعيف إزاء أي طرف.., كما تعلمت أيضا ألا أسمح لما تسمونه أنتم بالضعف البشري.. أو المشاعر العاطفية بأن تؤثر علي قراراتي, أو تدفعني للتنازل عن شيء من حقي الحصول عليه بالصلابة والقوة..

وعلي هذا النحو مضت حياتي.. وتزوجت في حياة أبي من ابنة أحد معارفه, زواجا تقليديا علي أساس المستوي الاجتماعي والمادي, وعشت حياة هادئة في مجملها مع زوجتي بعد فترة قصيرة من الاضطراب واختبارات القوة في البداية إذ شهدت حياتنا في بداية الزواج بعض المتاعب.. لكن طبيعة زوجتي التي تميل للمسالمة والرضا بالأمر الواقع قد ساعدتنا علي تجاوزها.. وانتظمت حياتنا بعد ذلك وأنجبنا ثلاثة أطفال تباعا, فكرست حياتها لهم ولبيتها وعرفت عني أنني لا أتأثر بالدموع.. ولا استجيب لأي ضغط لكي أفعل ما لا أريد أن أفعله, سواء من جانبها أو من جانب أهلها أو حتي من جانب أبي الذي حاولت هي في البداية أن تستعين به علي, كما عرفت عني أيضا أنني إن كنت غير بخيل إلا أنني لا أحب أن أنثر النقود في الهواء, ولا أن أضع القرش في غير موضعه.., ورحل أبي عن الحياة ورغبت أمي وشقيقاتي البنات في أن تستمر تجارته كما هي علي أن أتولي إدارتها وأعطي كلا منهن عائدا منتظما, حسب نصيبها في التجارة لثقتهن في أمانتي وكراهيتي للحرام.. وكان منطقهن في ذلك هو أنني قد لا أكون سخيا.. بالمعني الشائع لكني في الوقت نفسه حقاني وأنفر من القرش الحرام وأؤمن أنه يجرف في طريقه المال الحلال.., ولهذا رحن يلححن علي أن تستمر التجارة كما هي وأن أحصل علي عائد منها بقدر نصيبي فيها مع عائد آخر مقابل الإدارة.. لكني تمسكت بتصفية التركة وتوزيعها علي الورثة الشرعيين كل حسب نصيبه فيها, لكي أبدأ أنا تجارتي الخاصة حرا دون أي قيود, وخيرت أخواتي وأمي بين أن يعطينني نصيبي منها ويدرن هن التجارة بواسطة أحد أزواج الشقيقات أو يقبلن ببيع مايمكن بيعه منها وحصول كل فرد علي نصيبه.. وباءت محاولاتهن جميعا لإقناعي بالعدول عن ذلك بالفشل وتم لي ماأردت خلال العام الأول لرحيل أبي.. وانفردت وحدي بما بقي لي من تجارة أبي, وونميته واستثمرته حتي عوضت كل ماخرج منها خلال ثلاث أو أربع سنوات علي الأكثر, وتحسنت ظروفي المادية كثيرا, وواصلت طريقي في التجارة وفي الحياة بنفس منطقي الذي أشرت إليه, وكبر الأبناء وهم ولد وبنتان وتقدموا في مراحل التعليم, وحين التحق ابني بالمدرسة الثانوية حاولت أن أشركه معي في العمل لكي يتلقي عني تجربتي ويستفيد من خبرتي, لكني لاحظت عدم استجابته لي بالرغم من تشددي معه وإلحاحي عليه.. فكان أن حرمته من المصروف خلال الصيف, وقلت له إن من لا يعمل لا يحق له الحصول علي شيء, وتوقعت أن تنجح هذه الطريقة معه.. لكنها للأسف زادته بعدا عني.. وتحمل صابرا الحرمان, ثم حصل علي الثانوية العامة والتحق بإحدي الكليات وسمعت في ذلك الحين أنه يشكو لأمه وشقيقته من أن مظهره لا يليق به كطالب جامعي وابن لتاجر ميسور الحال. ورجتني أمه أن أبسط يدي معه بعض الشيء, لكني وقد تعلمت ألا أضعف أمام أحد رفضت ذلك وأصررت علي أن يعمل بالتجارة مقابل مايريد الحصول عليه من نقود إضافية.., ورفض هو ذلك أيضا فاستمر الحال علي ماهو عليه وبعد عامين آخرين نجح خلالهما في دراسته قالت لي زوجتي إن ابني ينكر علينا ألا تكون لنا سيارة وأنا قادر علي شرائها وأن من زملائه من هم أقل منا في المستوي المادي, لكنهم يعيشون أفضل منا ويركبون سيارات لا بأس بها.. ويقضون الصيف في الاسكندرية فنهرتها عن الاستطراد في هذا الحديث الفارغ.. وطلبت منها أن تنصح ابنها بأن يساعدني في العمل بدلا من التفكير في هذه الترهات, فكانت النتيجة أن ازداد صمتا وبعدا بالرغم من التزامه الأدب دائما في البيت ومع الجميع..

وتخرج أبنائي جميعا في عامين متتاليين, وازداد عجبي حين رفض ابني العمل معي بعد التخرج وراح يبحث عن وظيفة عن طريق إعلانات الوظائف ويقبل بالعمل كمندوب مبيعات لإحدي الشركات مقابل العمولة.. ويحمل منتجات هذه الشركة ويطوف بها علي البيوت ليعرضها للبيع.. وهذا يفتح له باب مسكنه وذاك يغلقه في وجهه.. وتلك تنهره لأنه دق عليها الجرس في وقت غير ملائم وهكذا.. وكل ذلك مقابل عائد لا يزيد علي200 جنيه في الشهر..

وتعجبت لحاله.. وانفجرت فيه.. وكدت أفقد أعصابي معه وأعتدي عليه بالضرب وهو صامت وساكن ولا يجيب سوي بأنه يريد أن يعتمد علي نفسه وتركته لحال سبيله عسي أن يسلم بعد قليل بالفشل, ويرجع إلي طالبا العفو عنه, لكنه مضي في طريقه بإصرار عجيب وساء مظهره بغير أن أتزحزح عن موقفي منه أو أبسط يدي معه قليلا ليشتري الملابس اللائقة وكلما التقينا مصادفة في البيت نظرت إليه في غضب فيغض بصره ويحني رأسه ولا يتكلم ولا يطلب شيئا.. ومضي علي تخرجه عامان ولم يستقر بعد في عمل لائق.. ومازال يمارس عمل مندوب المبيعات مع تحسن طفيف في دخله, واختليت به وسألته عما يفعله بنفسه وعن أسباب هذا العناد الذي يضر به وبنا, فإذا به يفجر مفاجأة جديدة في وجهي, ويقول لي إنه قد اختار أن يعتمد علي نفسه بعيدا عني لأنه مرتبط منذ عامه الجامعي الثالث بفتاة من الجيران.. وعاهدها علي الزواج ويعلم جيدا أنني لن أوافق علي زواجه منها لتواضع أسرتها من الناحية المادية وإن كانت أسرة طيبة ومشهودا لها بالتدين وحسن السمعة, وعائلها موظف حكومي ولهذا فقد رأي ان يعتمد علي نفسه لكي يستطيع أن يتقدم لهذه الأسرة بما يستطيع إدخاره من عمله.. وان كل مايرجوه مني هو ألا أتخلي عنه من الناحية الأدبية فقط وألا أدعه يقابل والد الفتاة وحده أو مع أمه لأنه لن يقبل به إلا في حضور أبيه.

وصعقت لما سمعته.. وسألته عن هذه الأسرة.. وأدركت أو تصورت أنه يضغط علي بما يفعله بنفسه لكي أقبل بزواجه منها.. وسألت نفسي هل أضعف وأستجيب لرغبته.. أم أثبت له ولنفسي أنني لا أفشل في أي اختبار للقوة مهما يكن شأنه.. وبعد صمت ثقيل قلت له إنني بالفعل لا أقبل بزواجه من هذه الفتاة لتواضع أسرتها, ولن أساعده ماديا في الزواج مادام لا يتزوج زواجا أرضي عنه.. أما مسألة ذهابي معه إلي أسرتها فلسوف أفكر فيها وأبلغه بقراري في الوقت المناسب..

وانقطع الحديث في هذا الموضوع بعد ذلك.. وتباعدت الأوقات التي أراه أو يراني فيها.. وكلما التقينا رأيت في عينيه نظرة استجداء لي.. كأنما يرجوني أن أعدل عن موقفي ولكن بلا جدوي.

وانشغلت وانشغلت الأسرة كلها بعد ذلك بخطبة الابنتين واحدة بعد الأخري.. ثم بزواجهما وانتقالهما إلي بيتي زوجيهما خلال العام التالي. وشهدت هذه الفترة أول خلافات شديدة بيني وبين زوجتي بسبب ما سمته هي تشددي وعدم مرونتي في المسائل المادية.. لكن الأزمة انتهت بسلام في النهاية واستقرت كل عروس في بيت زوجها.

وخلا البيت علي وعلي زوجتي وهذا الابن الشارد الذي لا أراه إلا لماما, ولا يكاد يتبادل معي كلمة واحدة, ولاتفارق عيناه إذا رآني نظرة الاستجداء والاسترحام.., وعلمت من زوجتي أنه قد عين في الشركة التي بدأ فيها مندوبا للمبعيات منذ4 سنوات وأصبح له مرتب ثابت إلي جانب عمولة البيع.. وفاتحتني هي في رغبته في التقدم لفتاته.. ورجائه لي ألا أحرمه من ذهابي معه لطلب يدها, لأنه قد أعد كل شيء للزواج..

وتساءلت متعجبا: كيف أعد كل شيء للزواج.. وليست له شقة.. ولن يستطيع مهما يفعل أن يحصل عليها دون مساعدتي, فأبلغتني أنه قد اتفق مع والد فتاته علي أن يسكن في شقة من غرفتين بالدور الأرضي من البيت الذي تقيم فيه أسرة الفتاة وذلك بعد ترضية ساكنها ببضعة آلاف من الجنيهات ليتنازل عن عقد إيجارها.

وتساءلت مرة أخري ومن أين له بهذه الآلاف؟! فأجابتني بأن بعضها من مدخراته وبعضه من ثمن بيعها هي لبعض حليها الذهبية والبعض الآخر مساهمة من والد الفتاة نفسه.

وضقت بما سمعت وعاتبتها علي تصرفها في ذهبها بغير علمي.. وقررت بعد تفكير أن تكون مساهمتي في زواجه برد ثمن هذا الذهب لأمه وأنا أعلم عن يقين انها سوف تعطيه لابنها في السر, فإذا سألتني ولماذا تفعل ذلك وأنت تعلم أنها ستعطي النقود لأابني, أجبتك لكي أظل صامدا علي موقفي الذي اتخذته منذ البداية وهو ألا أساعده علي هذا الزواج لأنني غير راض عنه, ونفذت ماأردت واستجبت أخيرا لرجاء زوجتي والابنتين وزوجيهما لتحديد موعد لعقد قران ابني ومشاركتي فيه.. وذهبت معهم جميعا إلي بيت أسرة الفتاة.. وابني لا تسعه الفرحة لوجودي معهم.. وقدمني لوالد فتاته بفخر هز مشاعري لأول مرة منذ سنوات طويلة.

وتم الزواج وانتقل إلي شقة الزوجية وبدأت زوجتي من حين لآخر تحدثني عن بساطة بيت ابننا بالمقارنة ببيتي شقيقتيه, وعن نقص بعض الأجهزة المنزلية فيه.. كأنما تنتظر مني أن أفعل شيئا.. لكني لم أتحرك بالسرعة التي رجتها.. وكل مافعلته هو أنني بدأت أغض الطرف عن الزيادة الطارئة في مصروف البيت بالرغم من خلوه علينا بعد زواج الأبناء, لأنني أدركت بعقلية التاجر أنها تساعد ابنها علي سداد ديون الزواج وتحاول ترطيب جفاف حياته ببعض المأكولات والهدايا والنقود.

وكلما راودتني نفسي علي أن أتخلي عن عنادي وأبسط يدي معه.. ترددت وقررت تأجيل ذلك إلي وقت لاحق إلي أن كنت ذات يوم في تجارتي أتسامر مع بعض العملاء واشرب القهوة وأدخن فإذا بي أشعر فجأة بالعرق يتصبب من وجهي.. وبضيق شديد في التنفس.. ودوخة عجيبة.. ثم أغيب عن الوجود وأفيق بعد ذلك لأجد نفسي في مستشفي قريب وحولي زوجتي وابنتاي وابني.. والدموع في عيونهم جميعا.. خاصة هذا الابن الشريد.

وأمضيت في المستشفي بضعة أيام, وقال لي الطبيب إنني حسن الحظ لأن الإنذار هذه المرة كان خفيفا, حيث أعاني ضيقا بسيطا في الشرايين ومطلوب مني أن أعتدل في حياتي وعملي وألتزم بنظام غذائي خال من الدهون والملح مع استمرار المتابعة وتناول الدواء.

وسألت عن التجارة ماذا جري فيها خلال غيابي فإذا بي أعرف ان ابني قد حصل علي إجازة من عمله وتفرغ لها.. وشهد له العاملان اللذان يعملان معي بالنباهة والأمانة والحرص علي مالي في غيابي..

وبعد فترة راحة قصيرة رجعت إلي عملي فسلمني ابني كل شيء واستأذنني في الانصراف للذهاب إلي عمله.. ومددت له يدي بمبلغ من المال تعويضا له عما خسره في عمله خلال انقطاعه عنه وأنا أبتسم في وجهه ربما لأول مرة منذ سنوات طويلة.. فإذا به ينحني علي يدي الممدودة له فيقبلها.. ويترك النقود في مكانها ويسرع بالانصراف قبل أن أنجح في إيقافه.

وأعترف لك بأنني ترقبت بعد ذلك ان تواصل زوجتي إلحاحها علي بأن أذهب معها لزيارة ابننا, حيث لم أدخل بيته منذ زواجه, لكي تجيء استجابتي لها كالعادة نتيجة لهذا الإلحاح وليس لرغبة مني, كما أحب أن يبدو الأمر إلا ان زوجتي كفت تماما عن ذلك.. كأنما قد أرادت بعد أزمتي الصحية ألا تثقل علي بشيء بغير أن تدري أن هذه الأزمة نفسها قد علمتني أشياء كثيرة.

إلي أن فاجأتها ذات يوم بأن طلبت منها ان ترتدي ملابسها لكي نزور بيت ابننا لأول مرة.. فنهضت مبتهجة واصطحبتها معي الي المسكن القريب وقبل ان نصل إليه اشتريت بعض الفاكهة والحلوي واللحوم والدجاج والمعلبات وتوجهنا إلي بيت ابني فما أن رآنا علي باب مسكنه حتي انفجرت الفرحة في وجهه, وهجم علي يحتضني ويقبلني ويقبل أمه ويحمل عنا الأشياء وهو يصيح في اضطراب يافلانة.. يافلانة.. بابا وماما عندنا! فكدت أنسي حكاية القوة.. وضبط الاعصاب وعدم التأثر بالمشاعر وأنخرط في البكاء علي حريتي.. لولا أن تماسكت في اللحظة الأخيرة, ودخلت المسكن وجاءت زوجة ابني الحامل مهرولة وسعادة الدنيا في وجهها.. وأمضينا معهما وقتا لم أشعر خلال سنوات العمر كله بمثل ماشعرت به فيه من سعادة وابتهاج وأمان.

والآن فإني أريد بعد أن أطلت عليك ان أنهي هذه الرسالة بأن أروي لك باختصار ما جد علي حياتي وحياة أسرتي خلال الشهور الماضية.

لقد عرفت كم كنت جافا وقاسيا مع هذا الابن.. واكتشفت انني الوحيد الذي لم يكن يعرف عنه كم هو إنسان طيب ومتدين.. وشهم.. ومتواضع وبار بأهله ومحبوب من أسرة زوجته وأصدقائه وكل من يعرفونه.

 

وعرفت أيضا أنني قد قصرت في حقه حين تركته يلاطم الحياة وحده, ويتزوج معتمدا علي ساعده فقط.. وحاولت تعويض تقصيري معه.. فدفعت له مقدم شقة من ثلاث غرف في عمارة جديدة سوف يتسلمها خلال3 أشهر.. واشتريت له كل ماكان ينقصه من أجهزة منزلية, حيث لم يكن عنده مثلا جهاز تليفزيون.. ووعدته بأن أشتري له أثاثا مماثلا لأثاث شقيقتيه بمجرد تسلمه الشقة, وكررت عليه عرضي بأن يعمل معي في تجارتي مقابل نسبة من الربح أو مقابل المرتب الذي يحدده هو.. لكنه اعتذر من جديد وفضل الاستمرار في عمله بالشركة مع قبوله العمل معي في فترة إضافية في المساء لكي يخفف عني العبء.. إلي جانب العمل بدلا مني كلما احتجت إلي الراحة لمدة يوم أو يومين وهو الآن يقضي معي ثلاث أو أربع ساعات كل مساء.. ويبدي مهارة كبيرة في العمل.. واستمتع بالحديث معه.. وأتمني لو طال الحديث بيننا إلي ما لا نهاية.. وقد تحسنت صحتي وصحة زوجتي كثيرا بعد هذه التطورات وبدت عليها السعادة.. وشعرت لأول مرة بدفء مشاعر ابنتي وزوجتي وابني, وإني لأتعجب الآن كيف حرمت نفسي من هذه المشاعر.. ومن هذه الأوقات البهيجة التي أمضيها الآن مع أفراد أسرتي ومع ابني علي وجه الخصوص طوال السنين الماضية ؟ وماهذا العمل الذي يستحق أن يحرم الإنسان من أجله نفسه من أسرته ومن مثل هذه المتعة البريئة معها بل وماقيمة النقود هذه التي يخسر الإنسان من أجلها حب ابنه أو أبنائه أو زوجته أو أهله.

لقد تعلمت الكثير والكثير خلال الفترة الماضية وأردت أن أشركك وأشرك قراءك معي فيما تعلمته.. ذلك أنه من بين التطورات الغريبة التي طرأت علي أخيرا أيضا أنني أصبحت من قراء هذا الباب بعد أن كنت أسخر من زوجتي حيت أراها تقرأه باهتمام وتدمع عيناها تعاطفا مع بعض أبطاله وأصدها حين تريد أن تروي لي بعض قصصه, فإذا بنا الآن نقرأه معا ونتبادل الحديث عن قصصه.. ولا يندر أن تدمع عيني لبعض شخصياته كما حدث حين قرأت أخيرا قصة ذلك الأب المتوحش الذي قتل طفلته الصغيرة بقسوته عليها.. فإذا أردت أن تعرف آخر هذه التطورات كذلك فهو أنني قد أوصيت ابني حين يحم القضاء وأرحل عن الحياة ويخلفني في تجارتي.. ألا يوزع التركة ويخرج شقيقتيه وأمه منها بعد إعطائهن حقوقهن وإنما تستمر التجارة لمصلحة الجميع لكي يجدوا كلهم موردا مستمرا للدخل بعد أن لاحظت أن شقيقاتي قد أنفقن معظم ماحصلن عليه من ميراث أبينا ولم يحافظن عليه لأبنائهن والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول:

لا أعرف لماذا ذكرتني رسالتك هذه بما قاله الشاعر والأديب البرازيلي باولو كويلو من أنه: نحن جميعا نحتاج إلي الحب.. إنه جزء من الطبيعة الإنسانية كالطعام والشراب والنوم.. ولقد يرقب أحدنا ذات يوم غروب الشمس الرائع وهو وحيد تماما فيقول لنفسه لا طعم لهذا الجمال لأنه لا أحد يشاركني فيه!

وهكذا فإن الدرس الأهم الذي نتعلمه من تجربتك هو أن الإنسان لا يسعد بقوته في مواجهة الجميع وحدها.. وإنما يسعد بحب الآخرين له وحبه لهم وبدفء مشاعر المحيطين به.. وازدياد عدد من يعتمدون عليه في حياتهم ويرجون له صادقين الصحة والسلامة لكي يستمر في عطائه العاطفي والمادي لهم. فغروب الشمس الرائع يزداد جمالا حين نرقبه وحولنا قلوب تخفق لنا بالحب الصادق وتخفق لهم قلوبنا بمثله. ولقد رفض الأديب والعالم اللغوي الإنجليزي صمويل جونسون قبول تقدير أحد معاصريه وإشادته المتأخرة بعمله.. لأنه كما كتب في رسالة مريرة له قد تأخر حتي بت وحيدا ولا أجد حولي من أحدثه عنه مشيرا إلي رحيل زوجته وأهله عن الحياة.

ولا عجب في ذلك لأن الإنسان يحتاج دائما إلي من يهمهم أمره ويستطيع أن يتحدث إليهم بلا حرج عما يحزنه أو يسعده.. أو يفخر به أو بخجل منه, وليس هناك من هو أقدر علي مثل هذه المشاركة الوجدانية من شركاء الحياة والأبناء والأعزاء المقربين..

 

نعم يحتاج الإنسان الي القوة المعنوية لكي تعينه علي الصمود لاختبارات الأيام وتحمل الصعاب والصبر علي أشواك الطريق وأحزان الحياة, لكنه لا يحتاج إليها لكي يتصلب في مواقفه ضد الأبناء والأعزاء, ولو كانت خاطئة وقاسية, إذ يحتاج معهم إلي الفهم والعطف والتراحم أكثر من أي شيء آخر.

ونعم أيضا يحتاج الإنسان إلي المال لكي ييسر له حياته ويلبي متطلباته الأساسية, لكنه يحتاج إليه كوسيلة لبلوغ غاية.. وليس كغاية في حد ذاته لأن الغاية المثلي التي ينبغي لكل إنسان أن يسعي إليها ويأمل فيها هي السعادة وراحة القلب والضمير, ولهذا فهو يحتاج الي المال بقدر ماييسر له بلوغ هذه الغاية.. فإذا تعارض سعيه إليه مع الغاية التي ينبغي للإنسان أن يكد من أجل بلوغها.. أو إذا أدت مغالاته في الحرص عليه إلي تعاسة من حوله وتعاسته بدلا من إسعاده.. فكيف يستقيم لعاقل أن يضحي بالغاية حرصا علي الوسيلة؟!

لقد تعلمت ياسيدي أخيرا ان تستخدم الوسيلة الاستخدام الصحيح لها في إسعاد ابنك وأسرتك ونفسك بالتبعية, فإذا كنت قد تأخرت كثيرا في إدراك هذا الفارق الجوهري بين الغاية والوسيلة فلقد يشفع لك أنك قد أدركته في النهاية ولما تضع بعد الفرصة نهائيا لتصحيح الأخطاء وإسعاد الأحباء وتعويضهم عن الحرمان السابق.

وإذا حق للإنسان أن يحزن علي شيء فعلي أنه قد أضاع سنوات ثمينة من العمر بغير ان يبذر بذور الحب والعطف في قلوب من حوله وبغير أن ينهل هو من نبع مشاعرهم الطيبة تجاهه ويستمتع بحبهم له وحنوهم عليه ذلك ان مانسميه نحن بالمشاعر العاطفية التي كنت تفخر بعدم ضعفك في السابق أمامها.. هي بالتحديد مايميز الإنسان عن غيره من الكائنات الحية.. وهي دليل الرقي الإنساني وليست أبدا دليل ضعف أو تخاذل كما كنت تعتقد خلال إيمانك بوهم القوة, ومن صالح الحياة دائما أن يكثر فيها من تترقرق عيونهم بالدمع تعاطفا مع الآخرين أو عطفا علي الأبناء والأعزاء أو حزنا علي مايستحق الحزن عليه. ومن سوء المصير أن يقل عدد هؤلاء الرحماء في الحياة ويكثر عدد أصحاب العيون المتحجرة والقلوب القاسية والأكباد الغليظة, فإذا كنت قد اكتشفت مؤخرا ابنك الطيب بعد كل هذه السنين من التباعد والجفاء فلأنك قد أصبحت والحمد لله من أصحاب العيون الدامعة التي كنت تنكرها علينا من قبل.

والدرس الذي يمكن استخلاصه من هذه النقطة بالذات هو أنه من المؤسف حقا ان نجهل أبناءنا علي هذا النحو, فلا نفهم شخصياتهم ولا نعرف لهم قدرهم وسجاياهم الحميدة إلا تأثرا بتجربة مؤلمة تعترض طريقنا.. أو تأثرا بآراء الآخرين الإيجابية فيهم.

إذ لماذا لم نقترب نحن منهم من البداية ونشجعهم علي الاقتراب منا لكي نكتشف حقيقة شخصياتهم في وقت مبكر ونقيم مواقفنا منهم علي أساسها, ونتفهم رغباتهم ومشاعرهم ومطالبهم, ونعتز بهم ونرضي عن أنفسنا إن قدمنا للحياة مثل هؤلاء الأبناء الصالحين؟ وكيف يكون الغرباء أعرف بأبنائنا منا نحن؟!

إن بعض أسباب التباعد الإنساني بين البشر هو أننا قد نبدد في بعض الأحيان أوقاتا ثمينة في الكبرياء وانتظار الخطوة الأولي من الطرف الآخر للاقتراب منا بدلا من أن نخطو نحن هذه الخطوة تجاهه ونقرب المسافات بيننا وبينه.

وأحسب أن هذا هو ماحدث للأسف بينك وبين ابنك هذا في السنوات الطويلة الماضية.. وأرجو أن نستفيد جميعا من دروس تجربتك هذه خاصة الآباء والأبناء منا في التمييز بين مايستحق ان نكد ونسعي للوصول إليه وبين ما لا يستحق منا أن نضيع العمر والأوقات الثمينة في مطاردته أو السعي إليه, وشكرا لك علي رسالتك المفيدة.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

Your Ad Spot