آخر الرسائل

Post Top Ad

Your Ad Spot

السبت، 2 أبريل 2022

من بريد الجمعه .. أغصان الشجرة


 

أنا طبيب شاب في التاسعة والعشرين من عمري نشأت في أسرة متعاطفة متدينة بين أب رحيم بمعني الكلمة ومثقف وأم حنون متعلمة, وأخ يكبرني ويعمل مديرا بإحدي الشركات الكبري وأخت تصغرني ببضع سنوات, وقد تمنيت منذ صغري أن أكون طبيبا فاهتممت بدراستي وأحببتها, واخترت أن أكون إنسانا خدوما لا أتأخر عن تقديم أي خدمة استطيعها لمن يطلبها مني, وأنهيت دراستي وبدأت سنة التدريب العملي وحصلت علي دبلومين دراسيين بعد التخرج, وكم كانت فرحة أهلي حين عينت معيدا بالكلية وبالقسم الذي أحبه.. فبدأت الاستعداد لدراسة الماجستير واخترت موضوعا يفيد المرضي ووافقني عليه أساتذتي, لكنه كان يتطلب تكاليف باهظة, للبحث العلمي فتم التنسيق بين كليتي وبين مركز البحوث, وأصبحت أعمل في الصباح بمستشفي الجامعة, وأقضي بقية اليوم في أكاديمية البحث العلمي, وكنت قد ارتبطت عاطفيا بزميلة لي وتمت خطبتنا فبدأ أهلي يطلبون مني التعجيل بالزواج.. خاصة وأنه قد تخرجت خطيبتي, وحصلت أنا علي الماجستير.. وعملي في الكلية موضع رضا أساتذتي وكل شيء يدعو للابتهاج والتفاؤل واستجبت لرغبة الأهل وبدأت مع خطيبتي في انهاء عش الزوجية والاستعداد للزفاف فإذا بي اسقط مغشيا علي وأنا أقوم بفحص أحد المرضي وأفقت من غيبوبتي فوجدتني ممددا فوق أحد أسرة المستشفي الذي أعمل به.. وبجواري عدد من زملائي الأطباء.. وفوجئت بأقربهم إلي يبلغني بأن مستوي السكر لدي يبلغ خمسة أضعاف المعدل الطبيعي, وأنه سبب هذه الغيبوبة المفاجئة! وتساءلت متألما سكر في هذه السن؟ ثم سرعان ما استعدت توازني.. واعانني علي ذلك التفاف الأهل والأصدقاء حولي.. لكني فوجئت بعد ذلك بفتور خطيبتي تجاهي وفوجئت بها تكثر من الحديث المتشائم معي عن المشاكل الصحية المتوقعة في المستقبل بالنسبة لمرضي.. والمضاعفات.. والمحاذير الخ.. وكأنني مريض تفحصه ولا تربطها به صلة ولست خطيبها.. وأدركت الموقف المؤلم.. وأحسست بالمرارة.. وخلال فترة قصيرة كانت قد انسحبت من حياتي تاركة وراءها غصة في النفس والقلب, وكمحاولة من جانب أبي لأن يخفف عني بدأ يلح علي في أن ارتبط بابنة أقرب أصدقائه إليه.. ولم أجد ما يمنعني من الاستجابة لرغبته خاصة وأنها فتاة مهذبة وزوجة صالحة لمن يرتبط بها. وبدأنا نتحدث في الأمر مع والدها.. ووجدت من واجبي أن أصارحه بمرضي فأبلغته به.. فانفرد بي جانبا وأبلغني بطريقة مهذبة انني إذا أصدرت علي هذا الارتباط فلن يعارضه لكنه يفضل لو جاء التراجع أو الرفض من جانبي أنا.. وليس من ناحيته حرصا علي صداقته لأبي.. وأبت علي كرامتي أن استغل حرج والد الفتاة من أبي واستمر في مشروع الخطبة فعزفت عنها دون ابداء اية أسباب لأبي.. لكني تساءلت ممرورا وهل ضمنت خطيبتي الأولي أو الثانية ألا يصاب من ترتبط به برباط الزوجية بالمرض في المستقبل؟ وهل الزواج هو مجرد علاقة جسدية أو مادية فقط.. وسلمت أمري لخالقي وعرفت أن الله سبحانه وتعالي سوف يعوضني خيرا وأسدلت الستار علي موضوع الارتباط والزواج في حياتي.. وانخرطت في العمل باهتمام مضاعف.. وكرست كل وقتي له وزاد دخلي كثيرا والحمد لله.. وبدأت في التفكير في انشاء مركز صغير متخصص في مجالي.. وشجعني أبي أكرمه الله علي هذا المشروع وساعدني عليه ماديا.. واشركت معي أخلص أصدقائي.. وحصلنا علي المكان.. وتعاقدنا علي الأجهزة.. واحتاج الأمر إلي بعض عمليات الهدم والبناء الداخلية ورشح لنا الأصدقاء احدي الشركات المتخصصة في هذا المجال وطلبنا موعدا مع مسئول هذه الشركة وذهبنا إليه فإذا به مهندسة شابة جميلة ومريحة.. وتم الاتفاق وبدأ تنفيذ الأعمال.. ووجدتني أتردد علي المكان كثيرا.. واختلق الاعذار والأسباب لأتصل بالمهندسة المشرفة واتحدث إليها.. وسلمت داخليا أن ينبوع الحب المحبوس داخلي قد تفجر منذ رأيت هذه المهندسة وتعاملت معها.. وانتهت الأعمال.. وشعرت بأن الفرصة تضيع من بين يدي فتجرأت وسلمتها ورقة صغيرة أعبر لها فيها عن مشاعري الصادقة وأسألها عن رأيها في. وفي المساء اتصلت بها متوجسا وحدثتها فبكت وصارحتني بأنها تبادلني مشاعري لكني استحق من هي أفضل منها لأنها مطلقة ولديها طفلة صغيرة, وانهت المكالمة دون أن تدع لي أي مجال للمحاولة معها واتصلت بوالدها فوجدته يعرف بما حدث وروي لي عن سوء حظها في زواجها السابق وكيف تزوجت من اختاره هو لها وهو ابن أحد أصدقائه ولم يكن يعرف الكثير عن هذا الابن, وكيف تبين بعد الزواج بثلاثة أسابيع فقط ولسوء الحظ أنه مدمن وكيف انتابته حالة هياج مدمرة ضربها خلالها بعنف شديد فكسر يدها واصابها اصابات متعددة فرجعت إلي بيت أبيها وطلبت الطلاق وحصلت عليه, وبعد شهرين فقط من الطلاق مات زوجها السابق بجرعة زائدة لكنها كانت قد اكتشفت انها حامل, ورفض هو أي محاولة لاجهاض ابنته.. واعتبر مولودتها حين جاءت إلي الحياة أختا صغري لها.. وتقدم لها بعد الطلاق كثيرون لكنها عزفت عن الزواج تأثرا بمرارة تجربتها الوحيدة معه. وشعرت أنا بأن تمسكي بها قد ازداد عمقا بعد أن عرفت كل ذلك عنها وطلبت من والدها أن التقي بها في بيته وقابلتها عدة مرات واحببت طفلتها الصغيرة وتعلقت بها, وعرضت الأمر كله علي شقيقي الأكبر فباركه وتعرف علي تلك السيدة الشابة واحبها واحترمها.. وعرفتها بأبي وأمي وأختي فأحبوها ورحبوا بها وتنبهت إلي انني لم اخبرها بعد بمرضي.. وربما لانني خشيت أن تتركني إذا عرفت؟ واستخرت الله سبحانه وتعالي وصارحتها فبكت وتساءلت.. وماذا لو كانت هي التي مرضت بهدا المرض.. أكنت سأتركها وأنصرف إلي غيرها؟.. ثم شاركتني الاهتمام بأسلوب الغذاء والرعاية والمتابعة لدي الطبيب المعالج بحب ومودة.. وأحسست بطعم السعادة الحقيقية معها وبمجرد رؤيتها وسماع صوتها, وحانت اللحظة الحاسمة لابلاغ أبي وأمي وأختي بظروفها الاجتماعية كمطلقة وأم لطفلة صغيرة, فلم تغير والدتي وأختي رأيهما فيها.. أما والدي الحبيب فلقد رفض ارتباطي بها بعنف شديد قائلا لي, انني قد خنت الثقة ولم أصارحهم بظروفها منذ بداية التعارف وها هو ما أعترف به بالفعل لانني لو كنت قد صارحتهم بالتفاصيل في البداية لما سمحوا لي بتقديمها إليهم ولضيقوا علي الخناق حتي لا أعرفها, وحاولت مع أبي مرارا وتكرارا أن يعدل عن موقفه ويبارك رغبتي في الارتباط بهذه السيدة وحاول أخوتي وأمي فأصر علي رفضه وهددني بمقاطعتي وقطع صلة رحمي إذا تزوجتها.. فأبلغته انني لا أستطيع الاقدام علي شيء دون موافقته ومباركته ودعائه لي كما أن والد فتاتي كذلك يأبي لها ذلك لأنها لا ينقصها أي اعتبار ولم تخطئ في شيء وليس بها عيب وإذا كان ثمة خطأ في الأمر كله فهو خطؤه هو في سوء اختيار ابن صديقه لها دون أن يتحري حقيقة شخصيته وظروفه ولقد كررت المحاولة مع أبي من جديد وسألته عما سيكون عليه الوضع لو كانت اختي هي التي واجهت نفس هذه الظروف, فنهرني قائلا: إنه سوف يحسن لها الاختيار بحيث لا تتعرض لمثل هذه الظروف إن شاء الله, انني ارجوك أن تساعدني في اقناع أبي الحبيب بأن يدخل البهجة والسرور إلي قلبي وأن يبارك هذا الزواج لكي ننعم جميعا بالحب والرحمة والمودة التي زرعها الله في قلوبنا.. وهو من قرائك الدائمين ويحترم آراءك فهل تفعل ذلك من أجل شاب محب وسيدة شابة أمينة يرغبان في أن يقضيا أيام العمر معا؟

 

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول:

لا خلاف علي أنك قد أخطأت بتعمدك إخفاء حقائق الظروف الاجتماعية للسيدة الشابة التي ترغب في الارتباط بها عن أبيك منذ بداية تعرفه عليها. ولا يشفع لك في ذلك تخوفك من أن يرفضها علي التو إذا عرف بظروفها في تبرير هذا الخطأ, لهذا فهو محق تماما في احساسه بأنك قد حاولت استدراجه للقبول بارتباطك بها بغير أن تضع أمامه كل الحقائق الصحيحة عنها.. ومحق كذلك في استنكاره لهذا التصرف من جانبك لأنه يتعارض مع الثقة التي يمنحها الأب لابنه.. ومع أمانة هذا الابن في عرض الأمور عليه فالحقيقة خير دائما من أي زيف.. وفارق كبير بين أن يختلف الأب مع ابنه في تقديره لبعض الأمور اعتمادا علي الحقائق الصحيحة.. وبين أن يستدرجه هذا الابن لتأييد بعض المواقف أو الاختيارات بالتعمية علي بعض الحقائق أو اخفائها. ففي الحالة الأولي يكون الأمر خلافا مشروعا في الرأي والرؤي بين الأب وولده أما في الحالة الثانية فإنه يكون خطأ أخلاقيا مؤسفا من جانب الابن في حق أبيه ولهذا كله فأنت مطالب أولا وقبل كل شيء بالاعتراف لأبيك بهذا الخطأ والاعتذار عنه.. ومن ثم يبدأ الحوار حول رؤية كل منكما لمن ترغب في الارتباط بها.

وفي كل الظروف والأحوال فلابد أن نسلم بأن دوافع أبيك للاعتراض علي هذا الاختيار هي في الأصل دوافع تتعلق بحدب هذا الأب عليك.. وحرصه علي سعادتك الشخصية من وجهة نظره ورغبته في سعادتك وفقا لمفاهيمه واستطرادا لأمنية كل أب لأن ينال ابنه دائما أفضل عطايا الحياة والحد الأقصي من الأشياء ومن زاوية الرؤية هذه فإنه يري أن هذا الزواج ليس الاختيار الأمثل لك لأنه يتضمن تنازلا عن الحد الاقصي للأشياء وقبولا بعبء عائلي لا يري أن ظروفك كشاب لم يسبق له الزواج تضطرك للقبول به وهو طفلتها الصغيرة غير أنه لا يغيب عن حكمة أبيك في الوقت نفسه أن السعادة مطلب عزيز المنال, وأنه إذا استشعر الإنسان صدق الحب والرغبة في السعادة مع طرف آخر تتوافر فيه كل المزايا والفضائل الأخري ولم يكن هناك ما ينكره البعض عليه سوي مثل هذه الظروف الاجتماعية التي قد تتعرض لها أي فتاة كريمة رغما عنها.. فإن الحكمة تطالبه بالنزول عن بعض هذا الحد الاقصي من المطالب من الحياة وبالقبول بما يحقق له الأمل في الهناء بغير أن يتوقف كثيرا أمام هذا الاعتبار.. كما أن الانصاف أيضا يقتضي من أبيك الرحيم كذلك ألا يركز بصره فقط علي ما تنازل عنه ابنه في سبيل الفوز بالسعادة في هذا الارتباط, وأن يمد بصيرته أيضا الي الطرف الآخر في هذه القصة ليعترف لهذه السيدة الشابة أنها هي الأخري لم تكن أقل استعدادا لتقديم القرابين في سبيل نيل الحب والسعادة والأمان.. فهي لم تتوقف علي سبيل المثال أمام ما سبق أن توقفت أمامه خطيبتك السابقة وحطمت من أجله مشروع الارتباط القديم.. وتوقف أمامه أيضا صديق والدك الحميم وأشفق علي ابنته منه وإذا كان والدك يشفق عليك من عبء الطفلة الصغيرة.. فإن حكمته لابد وأنها تدرك كذلك أن ما قد يراه من يحكم علي الأمور بالمنطق المجرد عبئا وهو هذه الطفلة الصغيرة قد يكون في رؤية المحب الراغب بشدة في السعادة مع أمها امتدادا لحبه لها وليست عبئا انسانيا كما يتصور, والمفكر الفرنسي الكبير فولتير يقول إن من أحب الشجرة أحب أغصانها! وهذه الطفلة الصغيرة هي الغصن الذهبي لشجرة هذه السيدة الشابة فإذا صدق حبك لها صدق بالضرورة حبك لابنتها.. وامتد إليها.

وبحسن المعاشرة تدوم المحبة كما يقول لنا المفكر الامريكي ايمرسون وليس بمثالية ظروف الطرفين ولا بخلوها من اية أعباء انسانية ولا بتوافقها مع الحدود القصوي للأشياء, فإذا لم يكن لدي أبيك من الاعتبارات الأخري ما يعترض عليه سوي ظروف هذه السيدة الشابة كمطلقة وأم لطفلة.. وتوافرت فيها كل الشروط والمزايا الأخري وكان الحب متبادلا وصادقا.. والرغبة في أن يعوض كل منكما الآخر عما ينقصه ويشد أزره في الحياة ويعينه علي أمره, حقيقية ومخلصة فلابد أن تنجح عشرتكما وتثمر ثمارها الطيبة بإذن الله.. غير أن كل ذلك لن يتحقق لك إلا إذا استكملت أسباب الأمل في السعادة الشخصية بنيل رضاء أبيك ومباركته لاختيارك وحياتك وثق من أنه لن يضن عليك بتأييده لك إذا كانت كل الاعتبارات الأخري متوافرة في شخصية فتاتك وإذا استشعر كذلك انك مستمسك بهذا الاختيار إلي النهاية.. ستظل صابرا ومتصبرا إلي أن يشفق عليك من أن يحرمك إلي ما لا نهاية في سعادتك ولاشك في أن والدك ممن يقدرون جيدا نعم ربهم الجليلة عليهم ويعرفون تماما أن من أجل هذه النعم أن يكون للمرء أبناء راشدون, زمام أمورهم بأيديهم ويستطيعوا أن يفعلوا بحياتهم ما يشاءون لكنهم يقبضون علي قيمهم الدينية كما يقبض المرء علي الجمر ولا يجرؤون ـ حبا وكرامة ـ علي الخروج علي طاعة آبائهم وأمهاتهم ولا تهنأ لهم حياتهم إلا إذا استشعروا رضاء الأهل الأقربين عليهم.. ومباركتهم لاختياراتهم!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

Your Ad Spot