آخر الرسائل

Post Top Ad

Your Ad Spot

الخميس، 31 مارس 2022

من بريد الجمعه .. شــجاعة الحياة

 


منذ شهور وأنا أفكر في أن أكتب إليك.. ولا أجد في نفسي القدرة علي الامساك بالقلم..

فأنا رجل في الثانية والأربعين من عمري, نشأت بين أب شيخ يعمل بالتدريس بالمعاهد الدينية وأم لاتعرف من الدنيا سوي طاعة زوجها والحدب علي أبنائها, وشقيق يكبرني وأخت تصغرني. وتنفست منذ طفولتي هواء الحب العائلي والحياة الهادئة الوادعة.. فأبي يوجهنا ويرشدنا إلي ما فيه صلاح أمرنا وأمي تفيض علينا بحبها وحنانها وعطفها في كل حين.. وبالرغم من قلة موارد أبي فلقد عشنا حياة راضية دائما بفضل طيبة أبي وتدينه, وحكمة أمي وتفننها في إدارة شئون بيتنا, فلم نشعر ذات يوم بالحرمان ولا بالنقص, وكان أب يلبي دائما كل مطالبنا في حدود قدرته, وكانت لنا مسراتنا العائلية الجميلة.. كالتفافنا حول أبينا بعد ن نرجع من صلاة الجمعة لكي نلعب معه الدومينو التي كان يجيدها أبي إجادة مطلقة منذ أيام دراسته بالأزهر ويهزمنا فيها الواحد بعد الآخر قبل أن نجتمع حول غداء يوم العطلة المميز, وكليالي حفلات أم كلثوم الشهرية التي كان يستعد لها أبي بشراء الفول السوداني واللب والبندق, ونضع أدوات صنع الشاي علي المائدة القريبة لكي نقوم باعداده خلال الاستماع, ويطرب أبي لسماع الغناء, ويلفت إنتباهنا إلي معاني الكلمات الراقية وأبيات الشعر الرصين التي تشدو بها أم كلثوم وكمناسبات نجاحنا في الشهادات العامة,, ودعوته لبعض زملائه الشيوخ إلي العشاء احتفالا بنجاحنا وزهوه بنا أمامهم في كل مرة, ودعائه الدائم لنا بالفلاح والنجاح في الحياة.. فعشنا في رحابه حياة آمنة سعيدة ورحل عن الدنيا راضيا مرضيا ونحن في سنواتنا الأخيرة بالتعليم الجامعي, فبكيناه وافتقدنا حبه وعطفه وتعاهدنا علي أن نحقق له آماله فينا, فلم يمض علي رحيله ثلاث سنوات حتي كنا قد تخرجنا كلنا في كلياتنا.. وأثمر دعاؤه الصالح لنا فعملنا جميعا, وخطبت الأخت الوحيدة لمدرس زميل لها.. وتكاتفنا بمرتباتنا ومعاش الأم والأخت علي تجهيزها وتزويجها معززة مكرمة وقضينا بعد زواجها ثلاثة أعوام نسدد أقساط جهازها من مرتبي ومرتب شقيقي, وببركة الأب الصالح أتيحت لشقيقي الأكبر فرصة العمل في إحدي الدول العربية عن طريق زميل وصديق لأبي يعمل هناك, فسافر مودعا مني ومن أمي وأختي بالدعاء.. وخلا بيت الأسرة علي وعلي أمي.. فأصبحت متعتي الأولي أن أجلس إليها بعد الغداء كل يوم لأتناول الشاي معها وأسمع حديثها العذب وأحدثها عن نفسي وعن يومي وما فعلت فيه ثم أنهض للخروج في الأصيل للقاء الأصدقاء.

وفي جلسة العصر هذه كثيرا ما حدثتني أمي عن أمنيتها الغالية في أن أتزوج أنا وشقيقي ويسعد كل منا بزوجته وأبنائه.

ولم تكتف بالأمنيات وإنما راحت ترشح لي ولشقيقي كل يومين عروسين جديدين.. وتحث أخي في التليفون علي الموافقة, إلي أن نجحت جهودها مع شقيقي بالفعل وجاء في اجازة ليري العروس المرشحة له واقتنع بها ولم تمض شهور حتي كان قد تزوجها واصطحبها معه إلي مقر عمله, أما أنا فلقد عصلجت معها ولم أقتنع بمن رشحتهن لي إلي أن جاء النصيب والتقيت بزميلة لي في العمل وأحببتها وأحبتني وخطبتها بمباركة أمي.. ورحبت فتاتي بعد مقابلتها لأمي عدة مرات الاقامة معها في مسكننا بعد الزواج, وبذلك حلت مشكلة الشقة التي كان يمكن أن تؤخر زواجي بضع سنوات وتزوجنا.. ووجدت زوجتي التي نشأت في أسرة عانت من الشقاق بين الأبوين في بيتنا جوا عائليا مختلفا سعدت به, ودهشت لكم الحنان الذي تغدقه عليها أمي.. وأنجبنا طفلينا خلال ثلاث سنوات وعلمت أمي زوجتي كل أسرار الأمومة.. وحملت عنها عبء رعاية الصغار خلال فترات عملها.. وقالت لي زوجتي بعد ولادة الطفل الثاني أنها لو خيرت الآن بين الاستمرار في الاقامة مع أمي أو الاستقلال بمسكن خاص بها لرفضت باصرار أن تغادر بيتنا.. أما شقيقي فلقد أنجب هو الآخر من زوجته طفلين واستقرت حياته في الغربة, واشتري لنفسه شقة في مصر وأثثها لكي يقضي بها شهر الاجازة كل عام فأصبح يمضي بها بضعة أيام ثم تلحق زوجته بأهلها مع الطفلين ويسرع هو بالانتقال إلي البيت القديم كما نسميه ليقضي معظم الاجازة بيننا.. ويستمتع بجلساتنا الهانئة, ونمضي السهرة في شرفة البيت أنا وهو وأمي نجتر ذكرياتنا العائلية في نشوة واستمتاع حتي الفجر.. ثم تمضي أيام اجازته كالبرق ويغادرنا علي أمل اللقاء في العام المقبل, وبالحاح من زوجته اشتري أخي شاليها في مدينة ساحلية بالوجه البحري لكي يقضي فيه بعض أيام اجازته الصيفية..

ومنذ ذلك الحين أصبح أخي يقضي بعض أجازته في هذا الشاليه ويلح علينا للسفر إليه لبضعة أيام كل مرة, فترفض أمي, وفي صيف العام الماضي لم يحضر أخي في موعده السنوي بسبب ظروف في عمله اضطرته لتأخير اجازته.. وانقضت الشهور دون أن يحضر حتي فقدنا الأمل في عودته ذلك الصيف.. لكننا فوجئنا بحضوره في أواخر شهر أكتوبر واصراره هذه المرة علي أن نسافر معه إلي المصيف لكي نمضي معه بعض الأيام هناك, رفضت أمي كالعادة.. وقالت له أن الصيف قد ينقضي وأنه من الأفضل له أن يقضي أجازته معنا في المدينة لكنه أصر علي سفرها وسفرنا معه, واستجابت أمي في النهاية لالحاحه ورجته أن يمهلها أسبوعا يقضيه وحده مع أسرته في المصيف ثم تلحق به..

وبعد أسبوع رجع إخي ليصطحبنا معه في سيارة أجرة.. لكن ظروف عملي لم تسمح لي بالسفر فاصطحب أمي وزوجتي والطفلين علي أن ألحق بهم بعد ثلاثة أيام.. وسافر الجميع في الصباح الباكر سعداء بهذه الاجازة غير المتوقعة.. وخرجت أنا إلي عملي.. ثم رجعت إلي البيت قبل موعدي بساعتين فشعرت بوحشة غريبة في البيت الخالي وداهمني إحساس كل غريب بالانقباض, حتي ندمت علي سماحي لهم بالسفر دوني. وحاولت أن أغفو بعض الوقت فلم يطاوعني النوم, فنهضت إلي الحمام واخذت حماما وصليت العصر ثم ارتديت ملابسي استعدادا للخروج, فإذا بجرس الباب يدق وفتحته فوجدت أمامي أمين شرطة ومعه بواب العمارة وبعض الجيران, والجميع متجهمون وتساءلت في قلق: خيرا.

فتبادلوا جميعا النظرات كأنهم يحثون بعضهم البعض علي الكلام ثم قال لي أمين الشرطة انني مطلوب للسفر إلي المصيف لأن حادثا قد وقع للسيارة التي سافرت بها أسرتي, وهناك مصابون في الحادث!.

ولم أستوعب ما قيل لي في البداية.. وكررت السؤال علي الأمين فأجابني نفس الاجابة.. وعجزت عن الكلام والتصرف والحركة, ووجدت أحد جيراني يحثني علي الخروج ويقول لي أنه سوف يصطحبني معه في سيارته.. وبصعوبة شديدة تحركة وخرجت معه.. وقلبي يخفق بشدة.. وركب معنا في السيارة اثنان آخران من الجيران راحا يطمئناني ويؤكدان لي أن الاصابات ستكون بسيطة بإذن الله.. وخلال الطريق تشجع أحدهما وقال لي وهو يذكرني بربي وإيماني أن والدتي قد قضت نحبها في هذا الحادث, فانفجرت في البكاء.

وبعد مسافة أخري في الطريق راح جار آخر يحدثني عن الايمان بالله والرضا بقضائه وقدره.. وكلما استمر في الحديث ازداد انقباضي إلي أن صمت برهة ثم طلب مني أن أحتسب عند الله زوجتي وأطفالي! لأن سيارة نقل ضخمة قد دهمت السيارة التي كانوا يركبونها من الخلف فمات كل من كانوا فيها وأصيب شقيقي الذي كان يجلس بجوار السائق, ولم أسمع بقية كلماته.. وأفقت بعد فترة من الوقت فوجدت وجهي مبللا بالماء ورائحة الكولونيا تملأ أنفي.. والسيارة واقفة وجيراني الثلاثة يحيطون بي والدموع في عيونهم, وتوالت الأحداث بعد ذلك أمامي وأنا لا أشعر بشئ ولا أري شيئا ولا أسمع شيئا, وتم اصطحابي إلي المستشفي لتسلم أسرتي والعودة بها إلي المدينة, وتولي جيراني الاجراءات الكئيبة وتنبهت في ذهولي إلي أن شقيقي المصاب موجود في نفس المستشقي فطلبت زيارته للاطمئنان عليه وقادوني إلي العناية المركزة فرأيته عن بعد والضمادات تحيط به, وغادرت المستشفي مع جيراني ومعنا أفراد أسرتي الذين كانوا حتي قبل ساعات قليلة يملأون حياتي بالبهجة والسعادة, ورجعنا للمدينة.. وتمت الاجراءات الحزينة وأنا لا أشعر بنفسي ولا بما يجري أمامي.. ووجدت زوج شقيقتي يجذبني من يدي لامضي الليل عنده استعدادا لاقامة العزاء مساء اليوم التالي.. وارتمت علي أختي وهي تصرخ وتولول.. وقد بح صوتها وجفت دموعها وزوجها يحاول إبعادها عني دون جدوي..

وفي مساء اليوم التالي وقفت مع زوج شقيقتي وأقارب والدي ووالدتي أتلقي العزاء في أسرتي كلها.. وقدماي لاتقويان علي حملي..

وفي اليوم الثالث سافرت إلي المستشفي الذي نقل إليه أخي.. ووجدته مازال في العناية المركزة.. وألقيت عليه نظرة, فنظرإلي حزينا, وقال لي في صوت ضعيف: سامحني!

ولم أدر علي ماذا يطلب مني أن أسامحه وقد أراد لأسرتي الخير وأراد القدر لها شيئا آخر.

وبعد أسبوع نقل أخي إلي مستشفي قريب بالمدينة فأصبحت زيارته وقضاء اليوم معه أو القرب منه هي سلواي الوحيدة وكلما رآني بكي وجذب يدي إليه محاولا أن يقبلها حتي كففت عن الاقتراب منه..

وبعد شهر آخر استطاع الحركة وسافر وساقه وذراعه في الجبس إلي مقر عمله لكيلا يفقد وظيفته..

وبعد سفره أصررت بالرغم من معارضة أختي وزوجها علي العودة إلي البيت الذي شهد حياتي بين أبي وأمي وأخوتي, ثم سعادتي بين زوجتي وأطفالي وأمي..

ولقد مضت الآن تسعة شهور علي الحادث لا أعرف كيف مرت ولا كيف طلع علي الصباح في كل يوم منها.. ولقد عولجت لدي طبيب نفسي اصطحبني اليه شقيقي حين رجع بعد شهرين للاطمئنان علي ومازلت حتي الآن لا أنام بغير المهدئات والمنومات, وبعد فترة اجازة من العمل رجعت إليه فأحاطني رئيسي وزملائي باهتمامهم.. ولاحظت أنا نفسي كثرة سهوي في العمل بسبب ضعف تركيزي حتي أصبحت لا أثق في أي عمل أقوم به.. إلا إذا راجعه بعدي أحد زملائي, وأعفاني رئيسي من موعد الانصراف تاركا لي حرية الخروج من العمل في أي وقت أشاء, وشكرته علي ذلك لكني لم أستخدم هذا التصريح أبدا, إذ إلي أين أذهب إذا خرجت من العمل... ولمن أعود وقد أصبح بيتي خاليا ممن كانوا يملأونه دفئا وحبا وبهجة.

إنني لم أكتب إليك لكي أشكو إليك من أقداري.. وحاشاي أن أفعل وأنا الرجل المؤمن المصلي الصوام, ولكني أكتب إليك لأن هناك بعض الخواطر التي تلح علي وتشغل ذهني وتشتت تركيزي, فلقد أكون منهمكا في العمل.. فتهاجمني هذه الخواطر وتستغرق كلية فلا اشعر بالوقت ولا أسمع من يخاطبني ولا أتحرك من موقعي إلي أن تنصرف عني.. وأول هذه الخواطر, هل كان ما حدث لي عقابا لي من ربي علي ذنب جنيته أو خطايا ارتكبتها؟.

وهب أن الأمر كذلك فلماذا كان العقاب مشددا وقاسيا علي هذا النحو؟ لقد قرأت أن بعض الطغاة كانوا إذا أرادوا معاقبة أحد بقسوة بالغة لم يقتلوه وإنما قتلوا اعزاءه وتركوه يعيش بعدهم لكي يكون عذابه مضاعفا.. بدلا من أن يحكموا عليه بالموت فيستريح, فهل كان عقابي من هذا النوع؟

وأي ذنب جنيته لكي استحق هذا العذاب المضاعف؟

لقد راجعت حياتي كلها وخطاياي وآثامي فلم أجد فيها مايبرر هذا العقاب القاسي.. ووجدتني علي العكس من ذلك قد نشأت في بيت علم ودين وتربيت علي الفضائل والتزمت بفروض ديني ولم أعرف قبل زوجتي امرأة وكنت بارا بأبي وأمي وأخوتي ولم أوذ في حياتي أحدا, ولم أسرق ولم أرتش ولم آكل حراما.. ولم أتطلع إلي ما في يد غيري, فكيف أبرر لنفسي إذن هذا العقاب؟

لقد ظننت بعقلي الظنون حين رأيت مرارا أطياف أحبائي تطوف حولي في البيت الذي خلا منهم.. وحين خيل إلي مرارا أنني أسمع أصواتهم وضحكاتهم بل ودعوة أطفالي لي لمشاركتهم لعبهم كما كنت أفعل في الزمن السعيد.. وشكوت حالي لطبيبي فطمأنني إلي أنها حالة مؤقتة وسوف تذهب إلي حال سبيلها.. لكنها لم تذهب.. ومازلت أري أطياف الأحباء في البيت الخالي وأكاد أحدثهم ويحدثونني.. ومازالت نوبة الخواطر تفاجئني في كل حين في البيت أو الشارع أو العمل فتغيبني عن الواقع المحيط بي لفترة تطول أو تقصر, أستغفر الله بعدها وأستعيذ به من الشيطان الرجيم.. وأسرع إلي المسجد لأحتمي به.. أو للصلاة في البيت أو العمل وفيما عدا ذلك فأنا لا أكاد أخرج من البيت ولا أستجيب لدعوات أختي لزيارتها, وابتعدت عن الأصدقاء والجميع. فهل تراني أمضي في طريق الجنون ياسيدي.

وبماذا تنصحني لكي أتفاداه وأتحمل أقداري وحياتي. إن الطبيب يعيب علي حزني حتي الآن علي الراحلين ويحذرني من الهزال الذي أعانيه, حيث نقص وزني منذ وقوع الحادث الذي غير كل حياتي16 كيلو جراما, ويتهمني بأنني أنتحر ببطء.. وأوهم نفسي أنني لا أحاول الانتحار لحرمته الدينية, وفي نفس الوقت أمتنع عن الأكل لكي أهزل وأضعف وأصل إلي غايتي دون حرمة دينية, وأنا أقسم لك أنني لا أتعمد ذلك ولا أقصده, لكني قد فقدت بالفعل شهيتي للطعام, وأعجز أحيانا عن ابتلاع لقمة واحدة طوال اليوم, ولولا الحاح أختي وشقيقي والعصائر والحقن والفيتامينات لعجزت عن الحركة. فكيف أكون راغبا في الانتحار كما يقول الطبيب وأقبل في نفس الوقت علي تناول العلاج والفيتامينات والعصائر؟

وكيف يتهمني بالرغبة في الانتحار.. وأنا لا أملك الشجاعة الكافية للاقدام عليه..

 

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول:

في بعض الأحيان تكون الشجاعة مطلوبة بشدة للاستمرار في الحياة وتحمل أقدارنا فيها وليس للانتحار.

فالانتحار ليس شجاعة وإنما هو جبن وهروب ونكوص عن تحمل أقدار الحياة, وأنت ياصديقي لاتنقصك الشجاعة.. ولا تفتقد الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والقضاء والقدر خيره وشره, ولك من عمق ايمانك بربك وتسليمك بقضائه وقدره ما سوف يعينك بإذن الله علي الصمود لهذا الابتلاء الذي ابتلي بمثله من قبل أولو العزم من الأنبياء والصابرين المحتسبين, فإذا كانت الخواطر السوداء تهاجمك من حين إلي آخر فتذهلك عمن حولك فلأنك مازلت في حالة الضعف النفسي من أثر هذه الفاجعة التي تئن من وطأتها الجبال, والانسان في حالة ضعفه يكون نهبا لمثل هذه الأفكار السوداوية والوساوس القهرية التي تلح عليه وتفسد عليه أمانه وسلامه, غير أن للوسواس القهري بالرغم من وطأته علاجا مأمونا لدي الطبيب النفسي.. وهو قابل للشفاء وليس مستعصيا عليه.. وخير ما يعينك عليه إلي جانب العقاقير التي ينصحك بها الطبيب.. العبادة التي هي درعنا السرية ضد الآلام, والتسليم بما جري والتعلق برحمة الله في أن تنقذنا مما نكابده ونعانيه وتفتح أمامنا إبواب الأمل في غد يمسح عنا كل الأحزان.. أو يطفئ علي الأقل أوارها المشتعل ويحولها إلي حزن رفيق لايحول بيننا وبين التواصل مع الحياة والقدرة علي الاستمرار..

فأما الحزن الذي يعيبه عليك طبيبك من باب الاشفاق عليك وحثك علي الاهتمام بنفسك وتجاوز أحزانك, فلقد استسلم له من قبل سيدنا يعقوب حين حزن علي يوسف حتي ابيضت عيناه من الحزن, ولم ينكره عليه ربه فإذا كان الحزن علي فقد طفليك وزوجتك وأمك قد هزمك ونحل منه جسمك فلمن يكون الحزن إذن إن لم يكن لأمثالك من المبتلين.. غير أن عافية الله أوسع لك ورحمته سوف تدركك وتخفف عنك أحزانك وتعوضك عمن فقدت بإذن الله خير الجزاء.

وأما تساؤلك عن الذنب الذي جنيته واستحققت عليه هذا العقاب المشدد, فلم يجر ماجري لذنب جنيته أو إثم اقترفته, ولم يكن ربك حتي ولو كنت من أهل الخطايا ليأخد الأبرياء بذنوب المذنبين, وإنما هي أقدار مقدورة ومواعيد مسجلة في اللوح المسطور من قبل المجئ إلي الحياة, ولقد جاء في تفسير الطبري للآية39 من سورة الرعد: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب انه قيل أن الله سبحانه وتعالي يقدر أمر السنة في ليلة القدر فيمحو ما يشاء ويثبت إلا الحياة والموت, والشقاء والسعادة فذلك ثابت لا يتغير.

فكيف تفتش إذن في حياتك وماضيك عن مبررات لما كان من الأصل كتابا موقوتا وأنت الرجل المؤمن الذي لم يقترف حراما ولم يجن علي أحد وعاش حياه شريفة فاضلة؟ أولسنا نسأل الله اللطف في القضاء.. ولا نسأله رده لأنه لا راد له حين يجئ؟

لقد مسك الضر ياسيدي كما مس سيدنا أيوب من قبلك ومس الأنبياء والمبتلين في كل زمان ومكان فا هتف كما هتف أيوب وأيوب إذ نادي ربه إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين, فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكري للعابدين.

وجاء في تفسير هاتين الآيتين في المنتخب في تفسير القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالي قد أجابه إلي ماكان يرجوه فرفع عنه الضر ــ أي المرض ــ ووهبه من الأبناء بقدر من ماتوا من أبناءه وزاده مثلهم رحمة به من فضله وتذكيرا لغيره لكي يصبروا كما صبر ويطمعوا في رحمة ربهم كما طمع.

فأصبر ياصديقي كم صبر المبتلون من قبلك وأخرج من عزلتك وتشاغل عن أحزانك وخواطرك المقلقة وهواجسك بالتماس الصحبة والسلوي لدي الأهل الأقربين والأصدقاء وحبذا لو استطعت أن تستبدل بمسكنك الحالي الذي تطوف بك فيه أطياف الأعزاء الراحلين آخر بعيد عن موطن الذكريات والأحزان, فنحن نحتاج في بعض الأحيان إلي أن نبتعد عن كل ما يزكي لهيب أحزاننا كلما بدا لنا أنها توشك علي الخمود.

ولابد من أن تفكر جديا من الآن في تجديد حياتك وخلق أسباب جديدة تدعوك للتواصل مع الحياة.

ومن المحزن حقا أن تكون بعض الفواجع الانسانية محررة للانسان من كل خوف من الغد بعدها.. ولقد قيل لاعرابية مات ابنها ماكان أحسن عزائك فقالت: إن فقدي إياه قد آمنني كل فقد سواه, وأن مصيبتي به قد هونت علي كل المصائب بعده.

فتمسك بالحياة التي لا مفر لنا من أن نحياها سعدنا فيها أم شقينا, وأعن نفسك علي تجاوز المحنة بالأمل الذي لايخيب في رحمة ربك وفي الغد الآتي الذي يعوضك فيه ربك باذن الله عن كل الأحزان, والله المستعان علي كل أمر عسير.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

Your Ad Spot