آخر الرسائل

Post Top Ad

Your Ad Spot

الخميس، 31 مارس 2022

من بريد الجمعه .. سلاح الصمت


أنا رجل أعمال وزوجتي جامعية وربة بيت حاليا ولدي أبناء وقد كتبت إليك لأنني حائر وأشعر لأول مرة في حياتي بالعجز أمام مشكلة جوهرية من مشاكل الحياة.. فمنذ عشرين عاما كنت أنا وزوجتي قد أنجبنا طفلين, ونغالب ظروفنا المادية الصعبة.. وكانت زوجتي حاملا في طفلنا الثالث.. وتستعد للولادة, فشاءت الأقدار أن أوفق في هذه الفترة بالذات في الحصول علي فرصة عمل بالخارج, وزاد من ابتهاجي بها وجود فرصة عمل أخري ممتازة لزوجتي في المؤسسة نفسها. ووضعت زوجتي مولودنا الثالث.. وتحدد موعد السفر بعد17 يوما فقط من الولادة فاضطررنا لترك المولود الحديث في رعاية جدته لأمه خوفا عليه من عدم استقرار أحوالنا في بداية الغربة, واصطحبنا طفلينا الآخرين وكانا في عمري6 و4 سنوات وبدأنا تجربة الاغتراب.., واستغرقت في عملي الجديد, وكذلك زوجتي.. وفي نهاية عامنا الأول في الغربة عدنا في إجازة لمدة شهر, وحاولنا تعويض الطفل الوليد عن غيابنا عنه بالهدايا الغالية, وواظبنا علي ذلك كل عام, إلا أننا لاحظنا أنه لا ينسجم معنا علي الاطلاق, وأنه لا يتعلق سوي بجدته والألعاب التي نحضرها له فقط, واستمر الحال علي هذا النحو ست سنوات ازدادات خلالها الفجوة بيننا وبين هذا الابن الأصغر فقررنا ان نصطحبه معنا إلي مقر عملنا لكيلا ينسي أبويه, ولكي يقترب من أخويه.. ونفذنا هذا القرار بالفعل واصطحبناه معنا علي كره منه, ولاحظنا خلال الفترة الأولي من حياته المشتركة معنا في الغربة هروبه من الجلوس إلينا أو الحديث معنا.. فسرنا ذلك في البداية بأسباب تتعلق باختلاف الحياة العائلية التي اعتاد عليها.. لكننا لاحظنا أيضا أنه لا يجالس أخويه ولا يشترك معهما فيما يشترك فيه الأبناء من لهو أو مسامرة أو نشاط.. وأرجعت ذلك أيضا لاختلاف طبيعته عنهما حيث إنه شديد الحساسية علي خلاف أخويه ولأمر ما اعتقدنا أنا وزوجتي أن أفضل أسلوب نتبعه معه هو الحسم, ايمانا بأنه سوف يجعل منه شخصية قوية فاتبعنا ذلك الاسلوب ولم نحد عنه, ومضت السنون والأبن الأصغر يزداد عزلة وكآبة وهزالا لانعدام شهيته للطعام.كما لاحظت أيضا أن أمه تكثر من إهانته وإحراجه لأتفه الأسباب, فكنت لا اتدخل لمنعها من ذلك ظنا مني ان في ذلك مايحقق مصلحته.. وساعدني علي هذا الظن أنه ظل دائما الابن المهذب شديد الحياء والذكي المتفوق دراسيا, والذي لا يهتم بالمال نهائيا.

وبلغ ابني عامه السابع عشر وهو يزداد عزلة وكآبة. وفي هذه المرحلة انتهي عملنا في الغربة فرجعنا إلي بلدنا ومعنا من المال مالم نكن نحلم بجمع نصفه, وأقمنا في مدينة كبري من مدن بلادنا, والتحق الابن الأصغر بكلية مرموقة علي غير إرادته حيث كان حلم حياته أن يدرس الهندسة لحبه للرياضيات والعلوم الاليكترونية, لكنه وبضغط شديد من والدته قبل الالتحاق بتلك الكلية المرموقة بالرغم من كراهيته الشديدة للدراسة فيها. وكانت النتيجة ان رسب في عامه الأول بها, وهو الطالب المتفوق في كل مراحله الدراسية السابقة, وكان رسوبه قاسيا عليه لكن أمه لم تترفق به علي الرغم من ذلك,وأذاقته كل ألوان التجريح والإهانة, وكعادته بعد كل مواجهة بينه وبينها فقد دخل غرفته واستسلم للبكاء يومين كاملين امتنع خلالهما عن تناول الطعام وقمنا بعلاجه من الضعف العام الذي أصابه وبعد شفائه منه.. اتبع معنا اسلوب الصمت التام إلا للضرورة القصوي, فلا حديث معي أو مع والدته أو أخويه إلا للضرورة التي لا مفر منها.. ولا مسامرة بيننا وبينه.. ولا شيء سوي إجابات مقتضبة علي أسئلتنا له. وواصل بعد ذلك تعليمه تحت ضغط أمه وهي المسئولة عن متابعة تعليم الأبناء, ومضي العام تلو العام, وهو ينجح بالكاد في نهاية كل عام دراسي وفي كل مرة تظهر فيها نتيجته تقوم أمه بإهانته وإحراجه إلي أن جاءت السنة النهائية هذا العام وظهرت نتيجة الفصل الدراسي الأول منها قبل أسابيع وكانت كالعادة سيئة فبدأت والدته في سيل الإهانات والتجريح الموجه له.. فاذا بالابن الصامت المنكسر ينفجر لأول مرة وهو الذي لايعلو صوته علي أحد حتي مع صفعات والدته له وإذا به يصيح في وجه أمه بصوت كالرعد: كفاكم ظلما, ثم يشق قميصه من شدة انفعاله ويدخل حجرته ويغلقها عليه..

وفي الصباح.. دخلنا حجرته فلم نجده فيها ووجدنا بدلا منه رسالة يعاتبنا فيها عتابا مؤلما ويقول لنا فيها إنه يحبنا كثيرا لكنه لايعرف كيف يثبت لنا هذا الحب.. وإنه لا يريد منا مالا فلقد كرهه كما كره كل شيء في الحياة.. ويطلب مني ألا أبحث عنه.. ومن أمه ألاتدعو عليه بسوء لأنه ابنها مهما يكن من أمره.

ونزلت علي كلمات هذه الرسالة المريرة كالصاعقة.. وصهرت مشاعري الأبوية التي تجمدت منذ سنين طويلة.. وشعرت وكأن سيخا من الحديد المحمي بالنار يدخل في أحشائي.. ولم يهدأ لي بال حتي عرفت أنه يقيم وحيدا في بيت جدته لأمه في بلدتنا الأصلية.. وقررت أن أدعه لنفسه بعض الوقت الي أن تهدأ أعصابه, ويعود إلينا, ورحت أقلب في كتبه وأوراقه التي تركها وراءه فوجدته قد كتب فيها كلمات ممرورة يقول فيها إنه يحس بأنه شخص غير مرغوب فيه ويتساءل لماذ لا يهتم به أبوه ويقربه منه ؟ ولماذا حين تقطر عينه الدمع دما لا يجد من يخفف عنه أو يشعر به ؟.. ولماذا يتم كل شيء في بيتنا بالشدة والشجار والصخب.. ثم يقول: كل كلام أبي وأمي مطاع طاعة عمياء حتي ولو لم يفهموا ظروفي!

ويختتم تساؤلاته هذه بعبارة كادت تصيبني بالشلل حين قرأتها وهي أنه يشك جديا في أنه لقيط وليس ابنا طبيعيا لي ولأمه وذلك علي ضوء مايحس به ويستشعره, ويطالبنا باعتباره ميتا, مؤكدا لنا ان ذلك لن يكون صعبا علينا, ونحن الذين تركناه من قبل في فترة كان فيها أضعف كثيرا منه الآن!

إنني ياسيدي في ذهول مما قرأته في أوراق ابني وقد عز علي أنه لا يشعر بأبوتي له وأنا الذي علي استعداد لأن أفديه بنفسي وعمري, وأنه يلومنا علي تركنا له طفلا رضيعا وسفرنا الي الغربة,بدلا من ترك أمه معه كما قال. وأقول أنا أيضا بدوري.. إننا ماسافرنا إلي الخارج إلا لكي نحميه من ذل الحاجة والفقر, وماتركناه في رعاية جدته إلا لأن سنه كانت صغيرة للغاية ولم تكن أمه تستطيع رعايته في سنواته الأولي وهي تعمل بالغربة, كما أننا لم نبخل عليه ماديا وقد وعدته بأن يكون له ماقدمته لأخويه كأساس لحياته المستقلة في المستقبل وبمجرد تخرجه.

ولقد كنت أعمل في الغربة20 ساعة في اليوم من أجله ومن أجل أخويه أفلا يشفع لي ذلك عنده في أن يلتمس لنا العذر فيما كان

أنني لا أتحمل أن أكون أبا ظالما لأبنائه وزوجتي تقول لي إن ابننا هذا يتدلل ولا سبيل للتعامل معه إلا بالاستمرار في التعامل معه بالشدة

وأنا حائر بين ذلك وبين عاطفتي تجاهه وخوفي عليه ورغبتي في أشعاره بعاطفتنا تجاهه.. فبماذا تنصحني أن أفعل.

 

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول:

افعل معه ياسيدي مايفعله الأب حين يشعر بخطر ضياع أبنه النهائي منه! اذهب إليه حيث يقيم وحيدا ممرورا واشرح له نفسك ودافع عن مشاعرك الأبوية المتهمة لديه وبرهن له علي سلامتها وخلوها من كل شائبة حتي ولو كانت تجربتك السابقة معه قد اتسمت بسوء التعبير عن هذه المشاعر, فنحن لا نستطيع إعادة شريط الأيام إلي الوراء لكي نعدل من أحداثه أو اختياراتنا السابقة فيه.. لكننا نستطيع علي الأقل ان نعالج بعض آثار هذه الاختيارات ونخفف من عواقبها كما نستطيع أيضا أن نتحلي بالشجاعة النفسية والأدبية ونعترف بخطأ بعض هذه الاختيارات كما أثبتت لنا بعد ذلك تجربة الحياة بل ونعتذر عنها لأعزائنا الذين دفعوا ثمنها غاليا من أمانهم وسعادتهم وتكوينهم النفسي.

ولاشك ان اختيارك أنت وزوجتك للاغتراب وترك طفلكما الوليد الذي لم يبلغ من العمر سوي17 يوما فقط وراءكما واستمرار غيابكما عنه ست سنوات كاملة, كان اختيارا تربويا وإنسانيا خاطئا رجحتما فيه المصلحة المادية للأسرة علي المصلحة الإنسانية والنفسية والتربوية لهذا الطفل الوليد فكان اغترابكما المكاني عنه.. معادلا لاغترابه النفسي عنكما ولافتقاده الإحساس الطبيعي بحضن الأم ورعاية الأب.., ولا يفلح في الاعتذار عن هذا النبذ العاطفي للطفل الوليد أنه قد ترك لرعاية جدته لأمه.. لأن الأطفال لا يربون بالنيابة عن آبائهم وأمهاتهم الطبيعيين إلا للضرورة القدرية وحدها وهي لم تتوافر في ظروفكما.. ولأن الضرورة المادية التي اقتضت سفركما بغير اصطحاب هذا الطفل الوليد معكما لم تكن تتطلب منكما هجره لأكثر من أسابيع أو شهور ينضم بعدها إلي اسرتكما وينضم وينعم بالنشأة الطبيعية بينكما, وتتشابك خيوطه مع خيوطكما منذ الصغر, اما تركه لمدة ست سنوات كاملة وفي مرحلة بالغة الأهمية في حياة الطفل تتحدد خلالها معظم سمات تكوينه النفسي الذي يصاحبه غالبا بقية عمره, فلم يكن اختيارا عادلا ولا سليما من الناحية التربوية, ولم يخفف من الأثر السلبي له محاولتكما تصحيحه بضمه إليكما فيما بعد ذلك انكما بدلا من ان تستوعبا استشعاره للغربة بينكما ونفوره العاطفي منكما وتترفقا به الي ان تنسج الألفة والاعتياد خيوط المودة والتفاهم بينه وبينكما, آثرتما اتباع اسلوب الحسم معه وهو طفل صغير في السادسة من عمره يشعر بأنه قد انتزع من بين أحضان أمه الحقيقية في مصر, ليعيش بين غرباء لا وقت لديهم ولا استعداد للترفق به الي أن يألفهم. وليت هذا الاختيار الخاطيء كان آخر الاختيارات الخاطئة في التعامل مع هذا الابن الأصغر.. فلقد تلاه اختيار آخر لا يقل خطلا عنه وهو اختيارك لعدم التدخل بينه وبين أمه التي أكثرت من إهانته وتجريحه لأتفه الأسباب حتي تحول إلي طفل منطو علي نفسه وشديد الهزال لإنعدام شهيته للطعام ظاهريا ولافتقاده الدفء العاطفي في حياته في الحقيقة. ولقد تواصلت هذه الاختيارات الخاطئة حتي بلغت قمتها في فرض زوجتك لإرادتها علي ابنها في نوع الدراسة الجامعية التي التحق بها علي الرغم من كراهيته الشديدة لها.. ورغبته في غيرها. فكان التعثر الدراسي وإنتهاء مرحلة التفوق من حياته أهون عواقب هذه الاختيارات.. أما أوخمها وأبعدها أثرا علي شخصيته وعليكم فهو في انفصاله عاطفيا ومعنويا عنكم.. وتقوقعه داخل ذاته واستشعاره للنبذ وعدم الجدارة الي الحد الذي بلغ به الشك في صحة تبعته لكم! ولقد كان من الممكن ان تتداركوا الكثير من هذه النتائج السلبية لو كنت قد آثرت الا تدع كل أمر هذا الابن لوالدته دونك حتي ولو كان اسلوب تربيتها قد أثبت نجاحا عمليا من قبل مع أخويه, فالحق ان تربية الأبناء ورعايتهم أخلاقيا وتربويا مسئولية مشتركة بين الأبوين ولا يجوز التفويض فيها لأحدهما بتحمل كامل المسئولية عنها دون الآخر كما فعلت أنت.

كما أن الإشارة الخطيرة الي قرب وقوع الانفجار كانت كافية أيضا للانذار المبكر بالخطر والنهوض لعلاج الأخطاء قبل استفحالها.. واقصد بهذه الاشارة سلاح الصمت الذي اعتمده هذا الابن معكم جميعا منذ سن المراهقة. فاذا كان صمت الأطفال دليلا أكيدا علي تعاستهم لانه خروج علي طبيعتهم المتفائلة والصاخبة, كما يقول لنا الأديب الروسي الخالد يستويفسكي في رواية المساكين, فان صمت الأبناء في سن المراهقة وبواكير الشباب إشارة مخيفة الي لنفصالهم المعنوي واغترابهم النفسي عن ذويهم إلي انهيار الجسور التي تصلهم بهم. فالصمت اذا تواصل واستمر, كما في مثل ظروف هذا الابن, هو سلاح المقهور للاحتجاج السلبي عما يعتبره إحجافا به أو غير مرض له, وإشارة ابنك الي طاعته العمياء لكل مايقوله ابوه وأمه حتي ولو لم يتفهما ظروفه, تأكيد مؤلم لهذا المعني, لأن الطاعة العمياء من شيم العبيد الذين يطيعون أوامر سادتهم وهم ينطوون لهم علي أسوأ مشاعر القهر وربما الحقد والكراهية وقد لا يتورعون اذا اتيحت لهم الفرصة عن البطش بهم, لهذا فنحن لا نسعد ــ كآباء وأمهات ـ بمثل هذه الطاعة العمياء المقهورة من ابنائنا, وإنما نسعد بالطاعة الإرادية الحرة القائمة علي الفهم والاقتناع وتبادل الآراء وتعبير الأبناء عن أنفسهم ورغباتهم الحقيقية بحرية.

وعلماء النفس يقولون لنا إنه لا يبدع أبدا من يعتاد الطاعة العمياء والرضوخ الكامل والاذعان التام لما يقوله الكبار من حوله, لهذا فلم يكن مستغربا ألا يبدع ابنك في دراسته التي أرغم عليها, وبدلا من التماس العذر له والصبر عليه حتي ينهي دراسته بسلام انطلقت عليه سهام التجريح والإهانة حتي بلغ السيل الزبي.. وانفجر البركان المكتوم في أعماقه.

لهذا فأني أقول لك في النهاية إنك وزوجتك وابنيك الآخرين المتباعدين عن هذا الابن مسئولون جميعا عما يعانيه تعثره الدراسي وعزلته واكتئابه وصمته.. وافتقاده الاحساس بالجدارة والانتماء اليكم, ومطالبون جميعا باستعادته إلي أحضانكم والتعامل مع معاناته باحترام وفهم وليس باتهامه بالتدلل أو التمرد, فهو شاب طيب وسييء الحظ ويحتاج الي ترفقكم به وإشعاره بعطفكم وحنانكم وليس الي مزيد من الإهانة والتجريح والقسوة.. وإلا تفاقمت العواقب.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

Your Ad Spot